إحياء التصوّف السني ج2

فلسلفة التصوف المضبوط بالكتاب والسنة تنبع من نصوص دينية أصيلة كقول الله تعالى :

” وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يُطعمون “

وقول الله تعالى :

” إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .. ” الآية .

وما في هذا المعنى من النصوص القرآنية والنبوية وهي كثيرة ، بل هنالك نصوص تدلّ على أن بعض الأعمال المدرجة في العبادات كالجهاد ما هي إلا وسيلة لغاية أجل وأعلى كما في الحديث الصحيح :

” ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم [ أي عند الله عزّ وجلّ ] ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورِق ، وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ” ؟

قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟

قال : ” ذكرُ الله عزّ وجلّ ” .

رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم .

في المقابل ؛ لا يخفى على اللبيب أن هنالك نصوصاً أخرى تحفظ التوازن والوسطية بين الدينا والآخرة وهي كثيرة جداً ومنها ما رواه مسلم في الصحيح عن حنظلة الأسيدي – وكان من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: لقيني أبو بكر فقال :كيف أنت يا حنظلة ؟

قلت: نافق حنظلة !

قال: سبحان الله ، ما تقول ؟

قلت: نكون عند رسول الله صلى عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأْيَ عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً .

قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا .

 فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قلت : نافق حنظلة يا رسول الله !

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ذاك  ؟ 

قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك

عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

والذي نفسي بيده ؛ لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرُشكم، وفي طُرُقكم، ولكن يا حنظلة : 

ساعة وساعة

ساعة وساعة

ساعة وساعة

” ثلاث مرّات ” أي يكررها ثلاث مرّات ، انتهى الحديث .

والمعنى جلي لا يحتاج إلى تفسير .

وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ” كنتُ وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الأمر وغيره ، وإذا نزل فعل مثله ” .

ولذلك كان عمر بن الخطاب إذا فاته شيء من السنة النبوية يقول : ” شغلني الصفق بالأسواق ” أي ألهاني البيع والشراء عن حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ” إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ، وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم عَمَلُ أموالهم [ أي الفلاحة كإصلاح النخيل ونحوه ] ، وكنتُ امرأً مسكيناً ألزمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني ، فأحضُرُ حين يغيبون ، وأعي ما ينسون ” .

وهذا يفسّر سبب إكثاره من الرواية ، فأبو هريرة كان صعلوكاً من صعاليك المسلمين والصعلوك في اللغة الأولى : من لا مال له ولا أهل يأوي إليهم .

نسخة للطبع نسخة للطبع