قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشهير المتفق على صحته:
” إن الحلال بيّن ، وإنّ الحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ” .
هذا الحديث الشريف أصل من الأصول العظيمة في الفقه الإسلامي ، تناوله فقهاء المسلمين بالشرح والبيان والتفسير ، وهو من الأربعين التي انتقاها الإمام النووي رحمه الله .
أدعوكم في هذا المقال إلى تأمّل الحديث من منظور خاص وزاوية خاصة …
نعلم أنّ عزّ وجل قد بيّن لنا الحلال والحرام كما في قوله تعالى : ” وكل شيء فصّلناه تفصيلاً ” وقوله تعالى : ” وما لكم ألا تأكلوا مما ذُكر اسم الله عليه وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ” . ونحو ذلك من النصوص التي تدلّ دلالة قطعية على أن الله عز وجل قد بيّن لعباده ما أحلّ وما حرّم ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشتبهات : ” لا يعلمهنّ كثير من الناس ” ومفهومه أن بعض الناس يعلمهنّ وهو عندهم حلال بيّن أو حرام بيّن . والاشتباه قد يرجع سببه إلى الجهل بنصوص الشريعة ، وقد يرجع سببه إلى الجهل بحقيقة الشيء المطلوب تنزيل حكم الله عليه .
مدارس الفقه الإسلامي انشغلت منذ القرون الإسلامية الأولى في دراسة الحلال والحرام ، وكسائر القضايا الفقهية هنالك أشياء مجمع عليها كالقول بإباحة البقر والغنم أو القول بتحريم الخنزير ، وهنالك أشياء مختلف عليها . كما يوجد بعض الاختلافات في القواعد الكلية .
ومعلوم أن دورة التطوّر العلمي في الحضارات الإنسانية عموماً منذ ألوف السنين إلى عصر النهضة الثقافية والصناعية كانت ترتقي بشكل بطيء جداً كما أن المسلمين العرب نجحوا في اختراق الأمم وعبور القارات في السنين الأولى من العهد الإسلامي فلم تجد المدارس الفقهية مشكلة في فهم النوازل والحوادث فالإحداثيّات كانت نادرة وتحت السيطرة .
خذ على سبيل المثال : ذكر الإمام السيوطي في كتابه الماتع ” الأشباه والنظائر ” الخلاف في الزرافة هل حلال أكلها أم حرام …
الزرافة كما نعلم توجد في الأدغال الإفريقية ولم يكن لها وجود في جزيرة العرب أو الشام أو مصر أو فارس وخراسان .. يصفها الناعت للفقيه المكي أو الدمشقي فيقول له : لها جلد مرقط كجلد النمر ، وحجمها كحجم الجمل ، ترفس رفس الحمار ، لها قرنان بصفة كذا وكذا ، وعنق بطول كذا وكذا … فيحتار الفقيه في تخيّل الموصوف …
ولذلك أدرج السيوطي مسألة ” الزرافة ” هل هي حلال أم حرام في كتابه الأشباه والنظائر ، وذكر قول قاضي القضاة الإمام السبكي :
” المُختار أكلُها ، لأن الأصل الإباحة وليس لها نابٌ كاسر فلا تشملها أدلة التحريم وأكثر الأصحاب لم يتعرّضوا لها أصلاً لا بحل ولا بحرمة ” .
ثم ذكر ما نُقل عن صاحب التنبيه إذ قال بتحريم الزرافة لأنها متولّدة بين مأكوليَن ، وقيل إن كلام صاحب التنبيه عن الزراقة [ مخلوق آخر ] إلى آخر جاء في كتاب السيوطي رحمه الله .
فالاشتباه كما ترى مرجعه في الأساس إلى عدم الإحاطة بذلك المخلوق الذي لم يكن معروفاً عند العرب كما يُقال في المَثَل العربي الطريف :
” اللي ما يعرف الصقر يشويه “