منذ آلاف السنين كانت الحضارات الإنسانية تتقدّم ببطئ ، وتتطوّر بخطوات متقاربة على فترات متباعدة حتى بلغت عصر الثورة الصناعية ، فتسارعت الخطى بسعي حثيث وتقدّم هائل في تطوير المعارف والعلوم الإنسانية وانعكس ذلك على شتى الجوانب الإنسانية ، وكان للسبق الأوربي أثر بالغ في اضطراب موازين القوى الدولية مما أدى إلى قلب قوانين صراع الحضارات البشرية فظهر ما يُعرف بعصر الاستعمار الأوربي وتقلّبت الأمور والنُظُم ثمّ تقاتلت الأمم العظمى والصغرى في حروب كونية ساخنة وباردة حتى بلغت البشرية عصرَ الفضاء والتكنولوجيا والانترنت والاتصالات والمواصلات البرية والبحرية والجوية ….
ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ ، في بضع سنين ماجَ الناسُ بعضهم في بعض ، فهتّكت الأستار وفُتّحت الأبواب حتى أصبح العالم الكبير قريةً صغيرة لا تخفى فيها خافية .
في ظلّ الصراع بين الآراء والأفكار والمناهج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية ، والتنافس المحموم بين الأمم ؛ فَرَضَ ذلك على الدين الإسلامي تحدّيات جديدة متطورّة ومُعقّدة لم تكن معهودة في القرون الغابرة ، فكان من الطبيعي أن يبرز الحديث عن نظرية ” تجديد الدين الإسلامي ” .
وما لا يسع التغافل عنه عند إثارة هذا الموضوع ما رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله قال :
” إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يُجدّد لها دينَها ”
هذه نبوءة عظيمة ، تتكلّم عن دورة لتجديد الدين الإسلامي على رأس كل مائة عام ، وهي نبوءة بالمستقبل البعيد للأمة الإسلامية لكن فقهاء المسلمين ” السنّة ” الذين أقرّوا بصحة هذا الحديث يقولون : إنّ تأويل النبوءة مقيّد بأصول ونصوص مُحكمة كقوله تعالى : ” اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً ” وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر ” لا نبيَّ بعدي ” وقوله ” كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ” و قوله ” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ” ونحوها من النصوص التي تنهى عن تبديل الدين بزيادة أو نقصان.
وعليه اختلفت آراء الفقهاء في تأويل النبوءة على مذهبين :
المذهب الأول / قالوا : إنّ المراد بالتجديد هو تطهير الإسلام مما علق به من الشوائب المُنكرة والبدع المحدثة ، مع إظهار ما اندرس وخفي من محاسن الدين حتى يعود نقيّاً جليّاً ، فالجِدَّة المقصودة عندهم هي العودة إلى الماضي والردّ إلى الأمر الأول .
ومما يشهد لهذا التأويل من هذا الوجه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من أحب أن يقرأ القرآن غَضّاً كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أُمّ عبد ” يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
فقوله : ” القرآن غضّاً ” تشبيه بالثمرة ، والغضُّ هو أول ما يطلع من الثمر ، وهو الجديد الطري ، طعمُه حُلْوٌ وريحه طيّب .
وبنحو هذا المعنى رُوي عن حذيفة بن اليمان موقوفاً ومرفوعاً والموقوف أصح ، قوله :
” يُدرس الإسلام كما يُدرس وَشْيُ الثوب حتى لا يُدرى ما صيامٌ ولا صلاةٌ ولا نسكٌ ولا صدقةٌ “
إلى آخر ما جاء في الحديث ، رواه ابن ماجة .
وهنا شُبّه الإسلام بالثوب المُزيّن بالوشي المرقوم فإن كان الثوب جديداً كان نقيّاً من العوالق وزينته ظاهرة زاهية فإذا أخْلَقَ الثوبُ مع مرور السنين كان تجديده بغسله من الأوساخ وإبراز ما خفي من محاسنه فيرجع إلى حالته الأولى .
هذا التأويل يميل إليه المحافظون من دعاة التمسّك بما كان عليه السلف الصالح ، ولذلك اعتبروا إمامَهم ابنَ تيمية – رحمه الله – شيخَ الإسلام ومُجدّدَ الدين في زمانه .
وهو كذلك اختيار ابن تيمية كما قال عند حديثه عن تفسير معنى غربة الإسلام :
” وكذلك بدأ الإسلام غريباً ولم يزل يقوى حتى انتشر ، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل ، كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريباً ، وفي السنن ” إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ” والتجديد إنما يكون بعد الدروس ، وذلك هو غربة الإسلام ” . [ مجموع الفتاوى / ج 18 صفحة 297 ] .
والتأويل بهذا المعنى صحيح من وجه لكن يُعاب على بعض أصحاب هذا الرأي الغلوّ في الجمود على الماضي والخلط بين أمر الدين وأمر الدنيا ، وعدم التفريق بين الثوابت والمتغيّرات في الدين الإسلامي .
كما روى الخطيب البغدادي في الجامع عن الإمام سفيان بن سعيد الثوري أحد أئمة السلف الصالح من أتباع التابعين أنه كان يقول : ” إن استطعتَ أن لا تحكّ رأسك إلا بأثر فافعل ” .
فانظر إلى المبالغة في التقيّد بالآثار والعودة إلى الماضي ، تلك هي الأغلال التي أعاقت تقدّم المسلمين عند انطلاق الثورة الصناعية قبل ثلاثة قرون …
احتيج إلى السنين لإقناع بعضهم بجواز ركوب السيارة الآلية …
واحتيج إلى السنين لإقناعهم بجواز تشريع القوانين الوضعية لتنظيم حركة مرور السيارات …
ومازلنا نحتاج إلى عقود من الزمان لإقناعهم بأن الأنثى يجوز لنا أن تقود السيّارة الآلية كما جوّزتهم لها قيادة الخيل والبغال والحمير .
وقد بالغ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وجوب التمسك بما كان عليه السلف حتى أورد في كتابه ” اقتضاء الصراط المستقيم ” بحثاً مفصلاً في تفضيل الجنس العربي على الجنس العجمي ، والعجمي كل آدمي ليس من نسل العرب ، وفرّع على ذلك تفضيل الصناعة العربية على الصناعة الأعجمية .
ثم نقل أقوال الإمام أحمد بن حنبل في كراهية الرمي بالقوس الفارسية ، ونقل عن أبي بكر الأثرم أنه قال للإمام أحمد بن حنبل : إن أهل خراسان يزعمون أنه لا منفعة لهم في القوس العربية ، وإنما النكاية عندهم للفارسية ، قال : ” كيف ؟ ! وإنما فتحت الدنيا بالعربية ” . انتهى
فتأمّل كيف كان ذلك الكلام مستساغاً في تلك العصور الغابرة حين كانت المعارف والعلوم الإنسانية متقاربة في البداءة والتخلّف .
ورحم الله شيخ الإسلام لو أدرك زماننا لاستحيى من ذكر تلك الآثار .
لأن المقارنة بين الصناعة العربية والعجمية في زماننا يُذكرنا بقول عبد الملك بن مروان للأعرابي : هل تعرف أهجى بيت في الإسلام ؟
قال : نعم ، قولُ جرير :
فغُضَّ الطرفَ إنك من نُمَيْر
فلا كعباً بلغتَ ولا كِلاباً
قال : أصبتَ . اهـ
وللحديث بقية …