حديث آخر لسهيل بن أبي صالح، انتقاه مسلم في الصحيح وغفل عن علّته، فيه من الخلط ما وقع في نبوءة دابق حَذْوَ القذّة بالقُذة وهو من الأحاديث المشتهرة على ألسن العامّة وعليه أسست فتوى عجيبة حريٌّ أن تدرج في موسوعة غينيس للأرقام القياسية تحت تصنيف:
“أغبى الفتاوى” !
فُتيا تحريم حجاب بو نفخة خَبَلٌ لم يأتِ من فراغ بل له مستند وهو الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح من حديث جرير بن عبد الحميد الكوفي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“صنفان من أهل النار لم أرهما، قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهنّ كأسنمة البُخت المائلة، لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا”.
لكنّ نسبة هذه النبوءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم خطأ فادح لأنها بالمُجمل المختصر:
من نبوءات كعب الأحبار!
خرافة حدّث بها سهيل بن أبي صالح في العراق بعد اعتلاله واختلاطه فرواها عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خالفه مسلمُ بنُ أبي مريم المدني وهو ثقة مأمون من شيوخ مالك فروى الحديث عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفاً، أخرجه مالك في الموطّأ وهو المحفوظ عنه كما قال الدارقطني في العلل.
ثم جاء شيخ خرف من أهل قباء كان يسكن المدينة المنورة يقال له أفلح بن سعيد قال فيه ابن حبان في المجروحين:
“يروي عن الثقات الموضوعات وعن الأثبات الملزوقات، لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه بحال روى عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن طالت بك مدّة فسترى قوماً يغدون في سخط الله … إلخ”.
وهذا الحديث أورده الحافظ ابن الجوزي في كتاب “الموضوعات” يعني الأحاديث الموضوعة زوراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الإمام الذهبي استنكر إدراجه في الموضوعات لأنّ الحديث أصله في صحيح مسلم، وفات الذهبي ما في رواية مسلم من علة قادحة.
ثم وجدنا النبوءةَ عند الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه برواية الثقات الحفّاظ عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً عليه أنه قال:
“إنا لنجدُ في كتاب الله المنزل صنفين في النار، قوم يكونون في
آخر الزمان … فذكر نحوه”.
فدار الحديث كما ترى وأحيل إلى ابن عمروٍ، ثم جاء راوٍ ليّن الحديث يُدعى عبد الله بن عياش المصري فرواه من وجه آخر عن ابن عمرو فحرّفه وزاد فيه : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم !
وابن عياش هذا ضعفه أبو داود والنسائي وقال فيه ابن يونس المصري: “منكر الحديث”، وابن يونس صاحب التاريخ كان من أعلم الناس بأهل بلده.
ثم تأملنا قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:
“إنا لنجد في كتاب الله المنزل صنفين في نار” .. إلخ
فوجدناه دليلاً قاطعاً على أنّ النبوءة إسرائيلية وليست محمّدية لأنّنا لا نجد هذا القول في كتاب الله المنزّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل وجدناه يروى من وجوه عن كعب الأحبار !!
كما رواه إمام أهل المدينة المنورة إسماعيل بن جعفر المدني عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي صالح مولى السعديين أنه سمع كعبَ الأحبار يقول:
“ما لي أرى في التوراة صفة قوم لَمْ أرهم بعد فُحَشة متفحّشين في أيديهم سياط مثل أذناب البقر من أهل النار، ما لي أرى في التوراة صفة نساء لم أرهنّ بعدُ ، ناعمات كاسيات عاريات من أهل النار”.
ورواه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي قبيل عن يُثيع أنّ كعب الأحبار قال للنعمان بن بشير قال:
” في كتاب الله المنزّل … ” فذكر الحديث.
ورواه الخرائطي في اعتلال القلوب بإسناده عن موسى بن عقبة عن عبد الرحمن بن يساف أن كعب الأحبار قال:
” يأتي على الناس زمان فيه نساء كاسيات عاريات … إلخ”
سلسلة بنت سلسلة، حذو القذة بالقذة، حلّقت ودارت ثم رجعت إلى كعب الأحبار وما يحمل من الأسفار، ويأبى الله إلا أن يحفظ دينه من الدسائس وإن تسلّلت إلى الصحاح بحفظ الملفّات الطبية، ليسلّها النقّاد كما تُسل الشعرة من العجين.
قال عبد الله بن الزبير بن عوّام رضي الله عنهما: قلت للزبير: إني لا أسمعك تُحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحدّث فلان وفلان؟
قال: أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول:
“من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النار”
[صحيح البخاري]