صواريخ أهل السياسة بين الماضي والحاضر

 جاء في الصحيح الثابت من روايات الأدب العربي القديم أن علقمة بن علاثة العامري نافر ابنَ عمّه عامر بن الطفيل فمرّ الأعشى بواديهما، وكان الأعشى في الجاهلية من فحول الشعراء الهائمين الذين تكلّم عنهم القرآن الكريم، وكان قد وقع في ورطة وخاف على نفسه فاستجار بعامر بن الطفيل وجاءه يطلب النصرة والحماية، ومن حُسن الحظ وصل إلى عامر في الوقت المناسب لحاجته إلى إعلامي خبير في إدارة الحملة الانتخابية في المنافرة التي وقعت بينه وابن عمّه علقمة.

نرجع إلى الرواية:

قال الأعشى لعامر: أجِرْني

قال : أجَرْتُك من الجنّ والإنس !!!

فقال الأعشى : ومِنَ الموت أيضاً ؟؟؟

قال: ومن الموت

العجيب في القصة الطريفة أنّ الأعشى لما سمع “صاروخ” عامر ومبالغته في الإجارة كافأه بصواريخ شعرية أسطورية، بصناعة عربية خالصة، نظمها له، وأهداها إليه لينافر بها ابنَ عمه علقمة، وهي من أروع ما نُظم في الشعر العربي الجاهلي، حتى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لحسان بن ثابت رضي الله عنه:

“يا حسّان أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإنّ الله عز وجل قد وضع عنك آثامَها في شعرها وروايتها”

فاختار حسان رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم تلك القصيدة ومطلعها:

علقمُ ما أنت إلى عامرِ

           الناقص الأوتار والواترِ

… إلى آخر ما جاء فيها، وفيها صواريخ من الطرز العربي الرفيع، وهجاء كثير فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بعد الانتهاء منها:

“يا حسّان لا تعد تنشد هذه القصيدة”

[الحديث النبوي من هذه الحكاية رواه أبو عوانة في الصحيح وابن أبي الدنيا وابن عساكر وغيرهم، ولنا عودٌ إليه في موضوع آخر]

والأعجب من ذلك أنّ ابن الأعرابي إمام اللغة وراوية الأدب العربي سئل عن أكذب بيت شِعْرٍ قالته العرب ؟

فانتقى صاورخاً من تلك القصيدة وأجاب:
 قولُ الأعشى:


لو أسندتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها

            عاشَ ولم يُنقلْ إلى قابرِ


حتى يقولَ الناسُ ممّا رَأَوْا

               يا عجباً للميّتِ الناشرِ *

      

أكتفي بذلك وقد استحضرته لصلته بفوائد “عام الرمادة”، والخلاصة منه أنّ المبالغة في الوعود الزائفة بالكذب والدجل السياسي خفيف على اللسان، وهي من الخوازيق المستحلية عند الناس منذ قديم الزمان.

لا شيء أسهل على الزعيم السياسي من إطلاق الشعارات بالكلام والعناوين الخدّاعة لأنّ الكلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “خفيفٌ على اللسان” وكذلك كانت مراسلات عمر وعمرو رضي الله عنهما بكلمات خفيفة، سنعرف منها الفارق بين السابق واللاحق !

كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى والي مصر لما تفشّى الموتان في الناس كقُصاع الغَنَم فاشتدّ غضب عمر من تباطؤ الخراج:

“إلى العاص بن العاص : يا غوثاه يا غوثاه”

فردّ عليه عمرو بن العاص:

“يا لبّيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي والسلام عليك ورحمة الله”

سبحان الله ! ما أبلغ أهل السياسة، وما أخفّ الكلام على لسانهم

الناس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يموتون
 والداهية السياسي يجيب بكلمتين خفيفتين:

“أولها عندك وآخرها عندي”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • طلاسم الإبداع البلاغي في بيت القصيد أستحيي من ذكرها على وجه التفصيل لما فيها من إيحاءات جنسية مبالغ فيها، وتفسير بعض الكنايات اللغوية تجده في قول الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما شاخ وكبر فقال لأصحابه: “ألا تروني لا أقومُ إلا رفداً، ولا آكل إلا ما لوق [يعني الطعام الساخن اللين] وقد مات صاحبي منذ زمان [يعني عضوه الذكري] وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحلّ لي، وإنّ لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتي الشيطانُ فيحرّكه، على أنه لا سمع له ولا بصر” رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
نسخة للطبع نسخة للطبع