“الضرورات تبيح المحرّمات” أصلٌ من المسلّمات في الفقه الإسلامي وفي معناه أنزل الله سبحانه وتعالى آيات كثيرة كقوله – سبحانه – : “حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير – إلى قوله – جل وعلا – : “فمن اضطرّ في مَخْمَصَةٍ غيرَ مُتجانفٍ لإثمٍ فإنّ الله غفور رحيم”، وقوله – جل وعلا – : “وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه”، وقوله – جلّ وعلا – : “فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه”، وقوله – جلّ وعلا – : “من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان”، وهنالك تفاريع ومباحث أصولية في علم الضرورة معروفة لدى فقهاء الشريعة الإسلامية.
ومن المعلوم أنّ المسلم المضطر الذي يعلم أنّ لله حدوداً ومحرّمات فيتعدّى حدود الله مضطراً غير متجانف لإثم هو يعلم في نفسه أنه يجاوز الحدّ إلى حُرمة لا علاقة لها بالإسلام ولا بجوهر الشريعة الإسلامية، كما روى الخطيب البغدادي في تاريخه والبيهقي وابن عساكر بأسانيدهم عن الحافظ ابن خراش أنه قال:
“شربتُ بولي في هذا الشأن – يعني الحديث – خمس مرّات”
ومعناه أنه كان يرحل لطلب الحديث النبوي وذلك في القرن الثالث الهجري فتنقطع به سبل الصحراء القاحلة في أسفاره فيضطرّ لشرب بوله من شدّة العطش، وهي حالة استثنائية خاصة كالمنكوب النيبالي الذي بقي ثلاثة أيام محاصراً بين جثث الموتى تحت حطام الزلزال حتى أشرف على الهلاك من شدّة الجوع والعطش فاضطر إلى شرب بوله للبقاء على قيد الحياة، فذلك المضطر كان همّه الفكاك من الطامّة الكبرى ولا يسأل مثله عن شريعة ولا مقاصد ولا حلال ولا حرام.
علم المقاصد أو مقاصد الشريعة هو علمٌ أوسع من “الضرورة” كما شرحتُه في مقالات سابقة، هو فنّ من علوم الإسلام يبحث في الضرورات الكليّة والجزئية، وعلمٌ يبحث في الحالات الاستثنائية الخاصة والعامة، كما أنه لا يقتصر على الضرورات بل يبحث فيما دونها من الحاجيّات والتحسينات، ويبحث في مقاصد الشريعة الإسلامية وجوهرها وعلل أحكامها، وعند الحديث عن فقه الأقليات فإننا لا نقصد الحديث عن المرأة تسقط في النهر فتجرفها سيول الفيضانات بعيداً هل يجوز لها أن تنزع خمارها وثيابها وتلقي أثقالها لتتمكّن من السباحة أم لا، تلك مصيبة لا يُسأل فيها عن حلالٍ ولا حرام ولا يعترض فيها إلا مخبول.
كلامنا عمّا دون ذلك كالحاجيات والتحسينات والضرورات غير الملجئة والنظر في الأحسن والأولى عند التعارض، والبحث في هذا الفن من علوم الإسلام لا يقتصر على النصوص المنقولة بحروفها بل يبحث في جوهر الشريعة ومقاصدها وعن الاختيارات الجائزة في الشريعة الإسلامية حتى وإن صحّت الاختيارات الأخرى، وقد يُفتى للقلّة المسلمة في أوربا بفتوى، ويُفتى بغيرها للمسلمين في بلاد الحرمين دون أن يُعاب ذلك التنوّع وذلك الاختلاف، وقد يصلح الأخذ بظاهر النص في موطن، ويصلح الأخذ بمقصد النص في موطن آخر كما في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما رجع من الأحزاب:
“لا يصلينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة”
فقال بعض أصحابه : لا نصلي حتى نأتيها
وقال بعض أصحابه : بل نصلي، لم يُرَد منا ذلك
فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعنّف واحداً منهم “.
ضوان الله عليهم منهم من تقيّد بظاهر النص المنصوص، ومنهم من خرج عن النص إلى المقصد فقال : “لم يُرَد منا ذلك” أي لم يقصد الشارع ذلك الحكم بحروفه إنما قصد الإسراع ليكبسوا العدوَّ قبل مغيب الشمس … هذا هو علم المقاصد.