لو كان الأمر بيدي لأمرتُ أن بنقشها على أبواب المدارس والمعاهد والجامعات ..
” كلٌّ يؤخَذ من قوله ويُرَدُّ”
قاعدة علميّة جليلة اشتهرت عن سيّد المعلّمين وأستاذ الإستاذين، رئيس مجلس التعليم والإفتاء في المدينة المنورة.
قال عبد الرحمن بن مهدي:
“أئمة الناس في زمانهم أربعة فذكر مالكاً بالحجاز”
وقال أبو مصعب راوي الموطّأ يصف مجلس ذلك المُعلّم ومكانته وهيبته في نفوس الناس:
” كانوا يزدحمون على بابه فيقتتلون على الباب من الزحام، وكنّا نكون عند مالك فلا يكلّم ذا ذا، ولا يلتفت ذا إلى ذا، والناس قائلون برؤوسهم هكذا، وكان السلاطين تهابه … الخ”
[مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم]
تواضع مالكٌ لله ولم ينخدع بذلك التبجيل فوضع لنفسه ولأصحابه منهجاً عظيماً في التعليم والتعلّم بقوله:
“كلٌّ يؤخَذ من قوله ويُرَد إلا صاحب هذا القبر”
يشير إلى قبر النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم. وكان مجلسه في المسجد النبوي قريباً من قبر المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكلمة مالك مأثورة عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما أخذها مالكٌ فاشتهرت عنه، كما ذكر السبكي في الفتاوى [1/148] وعقّب عليه الألباني قائلاً:
قلتُ: ثم أخذها عنهم الإمام أحمد، فقد قال أبو داود في مسائل الإمام أحمد [276] سمعتُ أحمد يقول:
“ليس أحدٌ إلا ويؤخذ من رأيه ويُترك ما خلا النبي صلى الله عليه وسلم” اهـ.
كان مالكٌ يقول لأصحابه وهم يرتعدون من هيبته:
“إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”
[رواه ابن عبد البر في الجامع2/32]
وروى ابن أبي حاتم الرازي عن عبدالله بن وهب الفهري المصري راوي الموطّأ أنه قال سمعتُ مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال :
“ليس ذلك على الناس” !
قال: فتركتُه حتى خفّ الناس، فقلت له : عندنا في ذلك سُنّة !
فقال : وما هي؟
قلتُ: حدثنا الليثُ بن سعد وابنُ لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شدّاد القرشي قال رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه.
فقال مالك: “إنّ هذا الحديث حسنٌ، وما سمعتُ به قطّ إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يُسألُ فيأمر بتخليل الأصابع”.
[ الجرح والتعديل 1/31]
الحكاية على حُسنها رواها ابن أبي حاتم من طريق أحمد ابن أخي ابن وهب عن عمّه وأحمد فيه ضعف فالله أعلم بصحتها، لكن الحديث النبوي روي من وجوه أخرى صحيحة عن عبد الله بن وهب وهو ثقة إمام عن ابن لهيعة وروايته عنه قبل الاختلاط.
وفي الختام أقول: إن كان ذلك المبدأ في العلوم الدينية فسائر العلوم أولى به، إنّ سرّ النهضة العلمية والصناعية عند الغرب يرجع إلى اعتمادهم تلك القاعدة العلمية في التعليم والتعلّم، ولولا ذلك لاستسلم جاليليو لمُسلّمات أرسطو، ولَعَكَفَ نيوتن على اجترار نظريّات فيتاغورس.
لولا ذلك لكنّا كما كنّا نحجّ إلى بيت الله الحرام على الجمال والبغال والحمير.