في الزمان الأول كان أكثر المصريين يشتغلون في الزراعة والرعي والصيد والتجارة بالمحاصيل الفلاحية، وقد روي أنّ عمرو بن العاص لما فتح مدينة الاسكندرية كتب إلى أمير المؤمنين عمر أنه قد وجد في الاسكندرية – وحدها – اثني عشر ألف بقّال يبيعون البقل الأخضر!
يعني ما يعدل عديد قواته المسلحة! ومن أجل ذلك نهى عمر بن الخطاب جُند مصر من الاشتغال بالزراعة والتجارة، لثلاثة أسباب ذات مقاصد سياسية استراتيجية احفظوها جيداً:
الأول/ للحفاظ على استقامة منظومة القضاء، لأنّ الزراعة والتجارة كانت مَهنة الشعب فإذا تعافسَ الجُندُ مع الشعب كثر النزاع بينهم، فيجبن الضعفاء [وأكثرهم من غير المسلمين] عن مقاضاة الأقوياء كما حدث لابن عمرو بن العاص لما سابق قبطياً فسبقه، فلم يرض بالهزيمة فضربه بالسوط وهو يقول: “أنا ابنُ الأكرمين” فجبن القبطي عن مقاضاته لدى القضاء المصري، وقد تكلمتُ عن تلك القصة التاريخية وبعض فوائدها في مقال سابق تحت عنوان “الرق والعبودية في الإسلام”.
والثاني/ تركيبة الدولة المصرية كما قلنا مراراً كانت فريدة واستثنائية لأنّ القبط كانوا نحواً من عشرين مليون، أكثرهم من غير المسلمين، والجيش المصري لا يزيد عن اثني عشر ألف مقاتل فقط لكنه يمتاز بالخبرة والكفاءة فاشتغال الجند بغير مهنتهم يفقدهم ما يمتازون به من الخبرة والكفاءة والجاهزية العالية.
والثالث/ لأنّ الفلاح يُحسن الزراعة، والبقال يُحسن البيع والمساومة، أما الجندي فلا يُحسن إلا الملاعبة بالأسلحة، فمن اشتغل بغير فنّه أتى بالعجائب، ولذلك يتردّى الاقتصاد في العادة إذا تولّى أمرَه الجُنْد، فافهموا يا أولي الألباب.
القانون العمري رائعة من روائع الحضارة الإسلامية يجب أن يُدرّس كسابقة قانونية وتجربة تاريخية في العلوم العسكرية وعلوم القضاء وعلوم السياسة الاقتصادية.
كفّوا عن التخبّط وتعلموا من التجارب الإنسانية الناجحة من تاريخنا وتاريخ غيرنا من الأمم الصاعدة.