ما هو الأمر الخطير ؟
أصبح بعض الصحابة والتابعين ممن اشتغلوا بحفظ الإسرائيليات إذا انفردوا بالناس وجلسوا مجالسَ التحديث أو التفسير حدّثوهم بتلك المأثورات الإسرائيلية، فأحياناً ينسبون الحديث إلى مصدره ككعب الأحبار، وأحياناً يحكونه من قولهم موقوفاً عليهم لا ينسبونه إلى أحد، وتفسير ابن جرير الطبري ونحوه من المصنفات والتفاسير – كما قلنا – طافحة بمثل هذا.
وهذا التطوّر الخطير هو ما أخاف سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه كان حريصاً على نقاء أصول الإسلام، ولم يكن سيّدنا عمر يتّهم أولئك الصحابة بتعمّد الكذب والتزوير لكنّه خشي إنْ طال الزمان أنْ يقع خلط ولبس بين النبوءات المحمدية والدسائس الإسرائيلية فتُرفع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتُنسب إليه، وهو أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى منع بعض الصحابة والتابعين من التحديث جُملةً خشية التباس النصوص واختلاط بعضها ببعض كما كان يخشى من الزيادات الدخيلة التي تخالف نص القرآن الكريم، ويشهد لذلك ما رواه أبو زرعة الدمشقي والحافظ أبو بكر الإسماعيلي بإسناد صحيح على السائب بن يزيد رضي الله عنه أنه قال:
“سمعتُ عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة :
“لتتركنَّ الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنّك بأرض دَوْسٍ، وقال لكعب الأحبار: لتتركنّ الأحاديث أو لألحقنّك بأرض القِرَدة “.
يعني يعيده من حيثُ جاء، إلى نجران ونواحي اليمن حيث تكثر القردة، وروى الإسماعيلي وأبو زرعة بهذا الإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
“إنّ حديثكم شرّ الحديث، وإنّ كلامكم شرّ الكلام، إنكم قد حدّثتم الناسَ حتى قيل قال فلان وقال فلان، وتُرك كتابُ الله، مَنْ كان منكم قائماً فليقم بكتاب الله وإلا فليجلسن”.
وما خيفَ منه هو الذي كان لمّا كثرت الرواية بعد انقراض عهد الصحابة والتابعين، عَمَدَ بعضُ المخلّطين من المحدثين إلى أحاديث كانت تُروى عن عبد الله بن عمرو أو عن أبي هريرة من قولهما أو عنهما عن كعب الأحبار فجعلوها عن رسول الله، ومن أمثلة ذلك اختلاف الرواة على ابن جريج في حديثه عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال يا أبا هريرة إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة الأيام .. الحديث. وهو مشهور رواه مسلم في الصحيح وفيه أحرف شاذة تخالف نصّ القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة المحفوظة.
قال الحافظ ابن كثير معلقاً عليه :
“تكلّم في هذا الحديث ابن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفّاظ، قال البخاري في التاريخ : وقال بعضهم عن كعب وهو أصح، يعني أنّ هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه من كعب الأحبار، فإنهما كانا يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يحدّثه عن صحفه، وهذا يُحدّثه بما يصدقه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديث مما تلقّاه أبو هريرة عن كعب عن صًحفه، فوَهَمَ بعضُ الرواة فجعله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكّد رفعه بقوله : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي … إلخ” اهـ
[البداية والنهاية 1/18]
فالأمر كما قلتُ خطير جداً، لأن مثل تلك الأوهام لم تقع في حديث أو حديثين، ولا عشرٍ أو عشرين، هي أخطاء وقعت في مئات الأحاديث، يعرف ذلك الحفّاظ النقّاد، فكثير من الأحاديث التي يسندها نعيم بن حمّاد وغيره في الفتن والملاحم وما يكون في العراق والشام من ملاحم آخر الزمان منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم هي من مأثورات كعب الأحبار وأمثاله وما وُجد في أسفار البعير الضال، وكثير من الأحاديث يرويها المعتلّون بسوء الحفظ أو الخرف بأسانيدهم عن أبي هريرة عن رسول الله أو عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله نجدها برواية الثقات موقوفة من قول الصحابي أو عن كعب الأحبار ومنها نبوءة دابق والأعماق. وهذا ما غفل عنه الإمام مسلم مع جلالته، وتفطّن له من هو أعلم منه بصنعة الحديث كشيخه البخاري وغيره من أئمة السنة، وفي صحيح مسلم أحرف أخرى وقع فيها ما وقع في نبوءة دابق والأعماق مثلا بمثل.