من المعلوم أنّ حركة “الخوارج” كانت أول منظمة إرهابية تكفيرية مارقة في تاريخ الإسلام، كان أعضاؤها من غلاة القرّاء وكانوا من فئة الشباب ولديهم خبرة عسكرية لأنهم انشقوا عن جند الكوفة وخرجوا بالسيف على الأمة وعاثوا في الأرض فساداً فأبادهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن بكرة أبيهم في معركة النهروان سنة 38 هـ.
لكن الجهود الصارمة في مكافحة الإرهاب – في الحقيقة – لم تبدأ بتلك الوقعة الدموية فقد خرج قبل الحرورية قارئٌ داعية ذو نزعة خارجيّة يُدعى “صَبيغ بن عِسْل” سعى إلى بذر البذور الأولى لفتنة الإرهاب أيام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
المثير في حركة صَبيغ هو الحرص على بثّ فتنة التكشيك العقائدي والغلو الديني في “الأجناد” المرابطين على أطراف الدولة الإسلامية بعيداً عن المدينة المنورة؛ مدينة العلم حيث يوجد أكابر الصحابة الذين عاصروا التنزيل وأخذوا التأويل والتفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وهنا بالطبع مكمن الخطورة لأنّ التطرّف الديني المقرون بحداثة السنّ وقلة العلم إذا أضيف إلى العمل المسلح صنع “الإرهاب!”
ترك صبيغٌ جيشَ العراق فالتحق بأجناد الشام فتصدّى له القارئ الفقيه سيّدنا أبو الدرداء رضي الله عنه، فتحوّل صَبيغٌ إلى مصر والتحق بأجناد مصر، وفي تلك الأيام الأولى من الفتح الإسلامي كان الوضع الاجتماعي والديني في مصر بالغ الحساسية، لا يحتمل شغباً ولا فتنة لأنّ الروم البيزنط كانوا يخططون للعودة إلى مصر، وفي مصر ما يزيد على عشرين مليون قبطي أغلبهم على دين الروم، وما يقرب من اثني عشر ألفاً من أجناد المسلمين مع قليل من عرب الحجاز قدموا للتجارة فخطّ لهم عمرو بن العاص مساكن جنوب الفسطاط فيما رواء الجنان على ضفتي النيل وكان عمرو بن العاص قد اشترط للقبط النصارى أن لا تُنزع منهم بيوتهم ولا أراضيهم ولا مزارعهم. ويعني أنّ التركيبة الديمغرافية المصرية كانت معقدة وليست كالعراق أو الشام أو الحجاز أو اليمن.
قصة صبيغ متواترة رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة أخرجها ابن عساكر وغيره في التواريخ، انتقي لكم منها رواية الليث بن سعد فقيه مصر قال رحمه الله:
“أخبرني محمد بن عجلان عن نافع مولى عبد الله أن صَبيغاً العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب، فقرأه، قال: أين الرجل؟ قال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: عمَّ تسأل؟ فحدثه، فأرسل عمر إلى أرطابٍ من الجريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبره ثم تركه حتى بَرَأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى بَرَأ، ثم دعا به ليعود له، فقال له صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد تداويني فقد واللهِ برئتُ، فأذن له إلى أرضه [أي العراق] وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب أن قد حسنت هيئته، فكتب إليه عمر أن يأذن للناس يجالسونه”.
[رواه ابن وضاح وابن عساكر وابن عبد الحكم في فتوح مصر]