ذكرتُ للحديث – في المقال السابق – خمسة أسانيد تبيّن أنّ مدارها على مجروحين من أهل البصرة ..
الإسناد السادس مداره كذلك على بصري أصيب بالاختلاط والخرف وهو الذي رواه الإمام مسلم في الصحيح …
وكان ذلك كافياً لاشتهاره بين الناس …
والسؤال هنا : كيف تسلّل هذا الحديث إلى صحيح مسلم … ولم خفيت علّته على كثير من العلماء ؟
الجواب :
الكذّابون في زمن الرواية أي خلال القرون الإسلامية الأولى كانت لهم حِيَلٌ لتمرير الأحاديث المكذوبة وتدليسها على الناس …
الأمر بلا شك في غاية الخطورة …
كان الوضّاعون في عصر الرواية إذا انكشف أمرهم وانفضح كذبهم يعمدون إلى الثقات من مشاهير علماء الأمصار من المدلّسين أو من ساء حفظه لسبب من الأسباب كالاختلاط والخرف فيلقّنونهم الأحاديث الموضوعة ليأخذها الناس عنهم.
ولذلك قال علماء الحديث : إنّ شرّ المختلطين من جلس للتحديث والإملاء بعد اختلاطه ، وشرٌّ منه من ثبت أنه كان يُلقّن فيتلقّن …
ومعنى قولهم : يلقّن فيتلقّن أي يقال له في حالة الاختلاط والخرف قُلْ : حدثني فلان عن فلان بكذا وكذا ، فيقول : حدثني فلان عن فلان بكذا وكذا ، فيكتب الناس عنه .
هذه – باختصار – هي علة الإسناد السادس لحديث ” الخليفتين ” .
وهي العلة القادحة في الرواية التي أخرجها مسلم في الصحيح لأنّها مما انفرد به خالد بن عبد الله الواسطي عن سعيد بن إياس الجريري البصري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما يُعرف للواسطي متابع في رواية هذا الحديث عن الجريري …
فمن يكون الجريري ؟
الجريري من مشاهير علماء البصرة ، كان إماماً ثقة مأموناً لكن ساء حفظه في الِكبَر واختلط عقله لما فشا الطاعون في البصرة .
قال ابن حبان : كان قد اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين .
لو أمسك الجريري عن الرواية بعد الاختلاط لما عيب بشيء …
لكن الجريري رحمه الله ابتلي بأمرين :
– الأول : جلوسه للتحديث والرواية لفترة طويلة بعد إصابته بالخرف ، ومن الرواة من حدّث عنه في الاختلاط ، وفي ذلك أدلة كثيرة قاطعة منها قول يحيى بن معين : سمعت ابن أبي عدي يقول : ” لا أكذّب اللهَ ، ما سمعتُ من الجريري إلا بعدما اختلط ” [ الكامل في الضعفاء 2 / 350 ] .
– الثاني : الجريري كان يقبل التلقين بعد اختلاطه .
قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي [ ص 742 ] :
” سعيد بن إياس الجريري البصري … أحد الثقات الأعيان اختلط بآخرة فكان يُلقّن فيتلقّن ” .
هذه الجِرحة تُعرف عند المحدّثين النقّاد بالجرح المفسَّر …
وهي مصيبة لا يستهين بها إلا المستهين بمقام الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ولذلك قال الإمام النسائي عن الجريري في كتابه الضعفاء والمتروكين : ” من سمع منه بعد الاختلاط فليس بشيء ” [2 / 188 ] .
ولنا عَوْد إن شاء الله إلى رواية مسلم لنبيّن ما فيها من عوار بعد الفراغ من الإسناد السابع حيث انتقل الحديث المُولَّد الموضوع من البصرة إلى الكوفة !
بعد أن شاع حديث ” الخليفتين ” في البصرة برواية المجروحين فأعرض عنه المتثبتين ، تسلل سارق كوفي يُدعى الحكم بن ظهير فحمله من البصرة إلى الكوفة وركّب له إسناداً كوفياً غايةً في الجودة والشهرة فرواه عن عاصم عن زر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم !!
وركّب على هذا الإسناد حديثاً آخر لفظه : ” إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ” .
الحكم بن ظهير لا يُفرح به ولا بمتابعته فهو غالٍ متهم بالكذب ، قال فيه ابن حبان : ” كان يشتم الصحابة ويروي عن الثقات الأشياء الموضوعات ” .
هذه الأسانيد السبعة هي أسانيد الحديث ” إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ” . فهو حديث ضعيف جداً لا يصح فيه إسناد البتة ….
فكل ما استنبط من هذا الحديث من أحكام شرعية هو بناءٌ على باطل وما بُني على باطل فهو باطل .