الخبر التاريخي الذي سأورده عليكم – هنا – لم يُكتب في العصر الحديث أو عصر الاستعمار الفرنسي أو الانجليزي في عهد الانحطاط !!
هو الخبر تداوله أئمة الفقه والحديث في القرون الإسلامية الأولى، ودوّنه مؤرخ مسلم في كتابه أيامَ الخليفة هارون الرشيد وأولاده يومَ كانت السيادة والغلبة التامّة للدولة الإسلامية – بلا منازع – من حدود الصين إلى بلاد الأندلس. فلم يكن ثمة خوف أو اعتبار لأقليّة أو أكثرية من غير المسلمين، ولم يكن يحرص على مراعاة القوانين دولية أو المؤسسات الحقوقية، ومن هنا تأتي أهميّة النص التاريخي الذي سأورده عليكم (1).
قال الإمام الفقيه الثقة ابن عبد الحكم المتوفى سنة 257 هـ في كتابه “فتوح مصر”:
“ويقال إنما دلّ عَمْرَو بنَ العاص على الخليج رجلٌ من قبط مصر”
حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه أنّ رجلاً أتى إلى عمرو بن العاص من قبط مصر، فقال:
أرأيت إنْ دللتك على مكان تجري فيه السفن حتى تنتهي إلى مكة والمدينة أتضع عني الجزية وعن أهل بيتي (2) ؟
قال : نعم
فكتب إلى عمر، فكتب إليه أن افعل، فلما قدمت السفن الجارَ[أي ميناء الجار على ساحل البحر الأحمر] خرج عمر حاجاً أو معتمراً فقال للناس سيروا بنا ننظر إلى السفن التي سيّرها الله إلينا من أرض فرعون… إلخ (3)
ثم ساق المؤلف شاهداً للقصة بإسناد آخر إلى عمرو بن سعد الجاري “أنّ عمر أتى الجار ثم دعا بمناديل ثم قال اغتسلوا من ماء البحر فإنه مبارك، فلما قدمت السفن الجارَ وفيها الطعام صكّ عمر للناس صكوكاً فتبايع التجار الصكوك بينهم قبل أن يقبضوها” اهـ
الشطر الأخير من الحكاية مشهور عند الفقهاء تجده في أبواب فقه البيوع بالصكوك وبه يتبيّن أنّ المشروع التجاري الكبير لم يكن يهدف إلى نهب الخيرات المصرية بالمجان كما ظنّ عمرو بن العاص ومستشاروه من القبط، أما الشطر الأول فلا يُذكر إلا نادراً ولذلك لم يُشتهر على ألسن الناس !
المحصلّة من الخبر التاريخي أنّ صاحب الفكرة أو مهندس فكرة المشروع كان وطنياً مصرياً، قبطيّاً نصرانيّاً اشترط إسقاط الجزية عنه وعن أهل بيته فوافق عمرو بن العاص وأقره أمير المؤمنين
سُفيان بن عُيَيْنَة المكي راوي الخبر هو ثقة حجة متفق على إمامته، وشيخه ابن أبي نَجيح هو صاحب التفسير كان مفتي مكة المكرمة في زمانه قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: “ابن أبي نجيح ثقة وكان أبوه من خيار عباد الله”، أبوه تابعي جليل من أصحاب العبادلة؛ عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس، روى عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ) ارجع إلى ما ذكرته في تفسير آية الجزية وبيان اختصاصها بفئة محدودة من اليهود والنصارى بيّنها الله تبارك وتعالى في فاتحة سورة التوبة ولذلك قال رسول الله الله عليه وسلم: “اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما وَدعوكم” والحبشة كانت تدين بدين القبط.
2) يعني أهل بيته من الرجال لأن الجزية فرضها عمرو بن العاص بأمرٍ من عمر على الذكور البالغين – فقط – ليس فيهم صبي أو شيخ كبير أو امرأة.
3) هذا ما وُجد في نص النسخ المخطوطة لكتاب “فتوح مصر” وهو نص ثابت غير مزوّر، وقد نقل هذا الخبر الإمام شهاب الدين النويري وهو من كبار علماء مصر في القرن السابع والثامن توفي سنة 733 هـ ذكره في كتابه “نهاية الأرب في فنون الأدب” [10/329] ، ونقله كذلك المقريزي شيخ المؤرخين المصريين [المتوفى سنة 845هـ] في كتابه “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، ونقله بإسناده ومتنه خاتمة الحفاظ المصريين جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ في كتابه “حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة [1/158].