ما زلنا في المطويّات الخفيّة لعام الرمادة؟
والفائدة النفيسة هذه المرة هي عبارة عن مدخل سنفهم منه لماذا فضّل سيّدنا الخليفة عمر بن الخطاب استشارة غيرَ المسلمين في إدارة الدولة المصرية كما سيأتي في المدوّنة اللاحقة.
ومن الضروري قبل ذلك أن نرفع الإشكال عن المشتغلين في علوم “السياسة الشرعية” وما يُعرف في العصر الحديث بـ”الإسلام السياسي”، لأنّ أصحاب الفكر التكفيري الجامد المنغلق يرفضون هذا المبدأ جُملة وتفصيلاً لظنّهم أنّ ذلك مما يناقض أصل الإسلام، ويعارض عقيدة الولاء والبراء، وحجتهم في ذلك متشابهات من القرآن الكريم كقوله سبحانه وتعالى:
“وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”
“وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ”
وقد أجبتُ عن هذا اللبس والخلط في فهم القرآن الكريم مراراً في مواضع سابقة من هذه المدوّنة، وبيّنتُ فيها الفارق بين الولاء الديني والولاء الدنيوي، والفاصل بين الشأن الديني والشأن الدنيوي كما جاء في الحديث النبوي الصحيح المتواتر:
“أيها الناس إنما أنا بَشَرٌ، أنتم أعلم بأمور دنياكم، إذا كان شيئاً من أمر دينكم فإليّ، وإذا كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به، أنتم أعلم بأمور دنياكم”
فعلى هذا يُحمَل تأويل إعجاب سيدنا عمر بن الخطاب بسياسة الفراعنة في إدارة الدولة المصرية وإصلاح الأراضي الفلاحيّة، ولذلك قلتُ وما زلتُ أكرّر وأقول:
إن الاستفادة أو الاقتداء أو التقليد التام باستنساخ التجارب الغربية الناجحة في إدارة الشؤون الدنيوية هي سنّة الأولين من السلف الصالح. جاء في حديث الليث بن سعد فقيه مصر وعالمها في ذكر مراسلات عام الرمادة:
“انّ عمر بن الخطاب لما استبطأ الخراج كتب إلى عمرو بن العاص:
“بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام الله عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد : فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى اللّه أهلها عدداً وجَلْداً وقوّة في بر وبحر “1”، وأنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملاً محكماً مع شدة عتوهم وكفرهم فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤدّيه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط، ولا جدب … ” إلخ
هنا تتجلى عبقرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في التدبير السياسي وعبقرية عمّاله الذين اختارهم لإدارة الدولة، وهنا تظهر أهميّة الاهتداء إلى نقطة الفصل بين الدين والدنيا.
إنّ أمير المؤمنين عمر الفاروق لم يهدم إنجازات من قبله ولم ينكر حسنات السابقين كما فعلت ملوك الفرس“2” وكما يفعل الأغبياء من زعماء العرب!
عمر؛ لم تُغْرِهِ الإمامة العظمى ولا الأنفة وعزّة النفس، ولا فضيلة الصحبة والسابقة عن تلقّي المشورة الدنيوية والتجارب السياسية الناجحة من الآخرين ولو كانوا كافرين.
وذاك – يا عزيزي – من أسرار طفرة النهضة الحضارية العربية الإسلامية في القرن الأول !!
الأميّون؛ رعاة الإبل والغنم خرجوا من خيام البادية فامتصّوا علومَ الأمم وتجاربها وعقولها من مشارق الأرض ومغاربها كما يمتصّ الإسفنجُ الماءَ، فمجّوا الخبيثَ الضار، وابتلعوا الطيّبَ النافع..
وما استبدّ برأيٍ في حكومته
إنّ الحكومـةَ تغري مسـتبديـها
رأيُ الجماعةِ لا تشقى البلادُ بِهِ
رُغم الخلافِ، ورأيُ الفردِ يشقيها
[من القصيدة العمرية في مدح عمر بن الخطاب للشاعر حافظ إبراهيم]ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لنا – إن شاء الله – تعريج قادم على خصائص الشعب المصري في الزمان الأول.
2 – سيأتي الكلام عن أسباب انهيار الامبراطورية الفارسية.