الأمر – ولله الحمد – لا يعدو مجرّد شغب سخيف من جاهل سفيه عاجز عن الصعود إلى القمة التي تربّع على ذروتها شيخُ الإسلام العلامة عبد الله بن بيّه، ورحم الله من أوصى العلماء بالصبر على أذى السفهاء قائلاً:
“من تصدّر لخدمة العامة فلا بدّ أن يتصدّق ببعضٍ من عرضه على الناس، لأنه لا محالة مشتوم، حتى وإن واصل الليل بالنهار”
يا معشر المسلمين إنّ ربنا واحد، وأمتنا أمة واحدة، وديننا واحد، قبلتنا واحدة، صلاتنا واحدة، صيامنا واحد، زكاتنا واحدة، وحجنا إلى الكعبة المكرمة واحد، نقف على صعيد واحد يوم عرفة فتحسدنا الأمم على ذلك الاجتماع العظيم، لكن أحوال المسلمين يا معشر العاقلين هي التي تختلف من شخص إلى آخر، ومن بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر، كما قال الرجل المنهك من رعي الإبل: يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها !
قال أبو مسعود البدري راوي الحديث : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب قط في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ ثم قال:
“يا أيها الناس إنّ منكم منفّرين، فمَنْ أمَّ الناسَ فليتجوّز فإنّ خلفه الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجة”
[رواه البخاري في الصحيح]
الناس تختلف أحوالهم فيهم القوي وفيهم الضعيف، وفيهم الفتي وفيهم الكبير، وفيهم السبَهْلل وفيهم ذو الحاجة، والبلاد تختلف أحوالها، والعصور تختلف أحوالها من زمان إلى آخر، إلى ترون الإمام الشافعي رحمه الله كان في الحجاز فأخذ عن أئمتها وشيوخها؛ مالك بن أنس وطبقته حتى بلغ العلى في الحديث والفقه والتاريخ واللغة والأدب ثم رحل إلى اليمن فأخذ عن علمائها؛ هشام بن يوسف القاضي وطبقته، ثم رحل إلى العراق فحط بمدينة السلام “بغداد” فأحاط به محدّثوها؛ أحمد بن حنبل وأصحابه، وأخذ عن فقهائها وعلمائها حتى قيل إنه كان يأخذ عن الإمام الواحد وقر بعير من كتب العلوم الإسلامية، ثم صنّف التصانيف في الفقه والأصول فبعُد صيته إلى أطراف المعمورة وتكاثر عليه طلاّب العلم فازدحمت بهم بغداد حتى قال الإمام أحمد بن حنبل:
” ما أحدٌ مَسَّ محبرةً ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه مِنّة”
[رواه ابن عساكر]
ولقّبه البغداديّون:
“ناصر السنة”
[رواه الخطيب في تاريخ بغداد]
وبالغ إمام العربية أبو عبيد القاسم بن سلام في مدحه فقال فيه:
” ما رأيتُ أعقل من الشافعي”
وأما كبير المصريين يونس بن عبد الأعلى فقال فيه:
“لو جُمعت أُمّةٌ لوسعهم عقل الشافعي”
فهل تعلم يا أخي القارئ ما الذي حدث للشافعي في سِنِيّه الآخرة ؟
عجيبة من العجائب
لما أشرف سيدنا الشافعي على الخمسين من عمره قرر الرحيل من مكة المكرمة إلى مصر فحط بأرض الكنانة وتوطنها حتى الممات، فوجد أحوال الشعب المصري تختلف شيئاً ما عن أحوال عرب الحجاز واليمن والعراق، وكان الإمام الشافعي بالطبع قد نضج وارتقى بعقله وفهمه مع تقدّم العمر فبدأ بالمراجعة …
لا عيبَ في المراجعة
المراجعة مفتاح التجديد والتصحيح
أعاد الشافعي بمصر تصنيفَ “الرسالة في أصول الفقه” التي كتبها ببغداد فأحكمها وصحّحها وجدّدها، كما أحكَم وجدّد كثيراً من آرائه وأفهامه لفروع الشريعة الإسلامية فوضع كتاباً فقهيّاً ضخماً في المذهب الجديد سمّاه “الأم”، فأصبح للشافعي مذهبان المذهب القديم وهو الذي وضعه في العراق والحجاز والمذهب الجديد وهو الذي وضعه في مصر، يعني من الآخر هنالك فقه عراقي وحجازي، وهنالك فقه مصري !
أو بتعبير آخر كتب شريعة إسلامية عراقية وحجازية وكتب شريعة إسلامية مصرية …
ومن شاء أن يسلك سبيل أهل الشغب فليقل إسلام عراقي وإسلام حجازي وإسلام مصري لا مشاحة في الاصطلاح وإن كنا نمقت تلك المصطلحات السخيفة …
وللحديث بقية