ذكرنا في مقال سابق أنّ الجاهل الذي يعلم أنه لا يعلم ، جهله بسيط والحمد لله ..
أما الجاهل الذي يظنّ أنه يعلم وهو لا يعلم ، جهله مركّب ..
معالجة الجهل المركب أصعب في العادة من معالجة الجهل البسيط لأن الجاهل الذي يعلم أنه لا يعلم أرغبُ في التعلّم ، ولذلك كانت مشاكل العلماء والمبتكرين خلال عصر النهضة العلمية مع الصنف الثاني أي مع أصحاب الجهل المركّب …
وعليه فإنّ أفضل المناهج في التربية والتعليم هي التي تبدأ بإقناع الجاهل أنه جاهل ، فهذا يريح المُعلّم العالم والمتعلم الجاهل من العنت ، إذ يرفع جهل المتعلّم من المركّب إلى درجة الجهل البسيط فيسهل عليه بعد ذلك تقبّل الصحيح من المعلومات …
وهذا الأسلوب اللطيف الذكي كان من المناهج النبوي في التعليم كما في حديث مسيء الصلاة – رضي الله عنه – .
الرجل التقي الصالح كان يظن أنه عالم بكيفية الصلاة ، كان يجهل أنه جاهل ، فعالجه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة والموعظة الحسنة …
بماذا بدأ صلى الله عليه وسلم ؟
– علّمه أنه لا يعلم .
– ثم بعد المحاولات المتكررة ارتقى المسيء من درجة الجهل المركب إلى درجة الجهل البسيط ، فمحا ما لديه من العلوم السقيمة الفاسدة وتأهّب لتقبّل العلم الصحيح بعد أن علم بأنه لا يعلم .
– وبعد الانتقال إلى درجة الجهل البسيط علّمه النبي صلى الله عليه وسلم العلم الصحيح فتبدّل الحال من الجهل والإساءة إلى العلم والإحسان .
وإليك نصّ الحديث الصحيح من البخاري ومسلم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد ، فصلى ثم جاء فسلم عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وعليك السلام ارجع فصلِّ فإنك لم تصل !
فرجع فصلى ثم جاء فسلم فقال : وعليك السلام فارجع فصلِّ فإنك لم تصل !
فرجع فصلى ثم جاء فسلم فقال : وعليك السلام فارجع فصلِّ فإنك لم تصل !
فقال الرجل في الثالثة : ” والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني ” .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ” .
الإشكال الأكبر والعسر في التعليم والتعلّم يكون مع أصحاب الجهل المركّب حتى وإن كان ما لديهم من المعارف حقّ لكنهم يجهلون التنوّع كما في قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام ولذلك قال الخضر لموسى : ” إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبراً ” ، ونحوه ما وقع لسيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كما روى البخاري عنه أنه قال : ” سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة ، فتصبّرت حتى سلّم ، فلبّبته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : كذبتَ ! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسله ، اقرأْ يا هشام ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك أنزلت ، ثم قال : اقرأ يا عمر ، فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” كذلك أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ” .
ووقع مثل ذلك لأبي بن كعب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ، وفيه قول أُبيّ بن كعب : ” فسقط في نفسي ولا إذ كنت في الجاهلية ، فضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا ، فقال لي : يا أبي ، أُرسِل إلي أن اقرأ القرآن على حرف الحديث . وفي رواية الطبري : ” فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمرّ وجهي ، فضرب في صدري وقال : اللهم اخسأ عنه ” .
الإشكال كان سببه الجهل المركب ، والجهل هنا هو الجهل بتنوّع الأحرف القرآنية ، ولو كان جهلاً بسيطاً لما كان من إشكال أصلاً لأنّ الأحرف القرآنية كلها من الله تعالى ، والقرآن الكريم كله معجز بأي حرف قُرئ ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .