الكلام هنا ليس عن الكمال أو النقص في النصاب العددي القانوني لمجلس الشورى، وإن كان النقص العددي موجباً للطعن على الكمال أو الصحة كما سأبيّنه لاحقاً عند الحديث عن سقيفة بني ساعدة، كلامي هنا عن الكمال والنقص في التعبير عن الرأي عند المشورة! فهذا وجه آخر من وجوه الطعن على الكمال أو الصحة.
في القرن الإسلامي الأول في عهد النبوة والخلفاء الراشدين بلغت حرية التعبير عن الرأي مبلغاً عظيماً حتى أنّ الخوارج الغلاة الذين جهروا بتكفير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه واعتزلوا الصلاة خلفه وتنحّوا إلى زاوية من زوايا المسجد الجامع لم يطردهم أمير المؤمنين من الجامع، ولم يمنعهم من التعبير عن رأيهم الديني والسياسي على ما فيه من غلوٍّ وتطرّف وتطاول بل قال لهم كما في الأثر المشهور:
” لكم علينا ثلاث، أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا.. إلخ”
أي ما لم تخرجوا على الأمة بالسلاح، فكان الأمر على ذلك حتى وَلِيَ الكوفةَ الحجاجُ بنُ يوسف الثقفي بالنار والحديد فافتتح عهداً جديداً من الإرهاب الفكري بالصعود على منبر الكوفة مُلثّماً، حاملاً سيفه، متقلّداً قوسَه وهو يقول:
“يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى”.
[رواه ابن عساكر في التاريخ]
بلغت القلوب الحناجر من الخوف والرعب فأقرّ الناس بالصمت والسكوت حتى أصبحت مجامع الناطقين بالشورى على نحو قول الشاعر:
تلوا باطلاً، وجلوا صارِماً
وقالوا صدقنا، فقلنا نعم
من أجل ذلك افتتح الله – تبارك وتعالى – كلامه عن الشورى بالحديث عن اللين والرحمة ليطمئن المستشارون في التعبير عن الرأي المخالف في تدبير الشؤون الإدارية، قال الله جل وعلا:
“فبما رحمة من الله لنتَ لهم، ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولكم، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر”
إنّ الطمأنينة وحرية التعبير عن الرأي في المشورة شرط من شروط صحّة الشورى، وليس الحديث هنا عن الشورى هل هي ملزمة أم غير ملزمة؟ وكذلك نقول عند الحديث عن الديمقراطية: قبل النظر في اختلاف الديمقراطيات وتنوع مجالس السلطة التشريعية من بلدٍ إلى آخر علينا أن نسأل: هل توجد ديمقراطية حقة كما في الأنظمة الديمقراطية المحترمة أم هو الدجل والزور والخَبَل كما في النُظُم الديكتاتورية المستبدّة؟ فكلمة الديمقراطية أو الشورى أصبحت موضة العصر ومسحوقاً من مساحيق التجميل …
كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تُقرّ لهم بذاك
ثم اعلم أنّ “الغلظة” التي تحدّث عنها القرآن الكريم ليست هي وحدها ما يحدّ من حريّة التعبير عن الرأي، هنالك موانع أخرى بعضها في الاتجاه المعاكس مثل الحياء أو الغِيرة والحَسَد أو الحَميّة والأنَفَة أو فرط المحبّة أو فرط الهيبة ونحوها. وهي أيضاً من موانع الحرية في التعبير ولذلك أنكر بعض العلماء حُجيّة الإجماع السكوتي.
وهنا تظهر فائدة “الجيرغا” لأنّ الناس في المجتمع القبلي لا يقدرون على البوح بخباياهم في المجالس العامة لأسباب متنوّعة حتى إذا اجتمعوا في المجالس العائلية الخاصة كشفوا الستائر عن خبايا السرائر وباحوا بما لم يقدروا على البوح به، وقد تفطّن النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المزيّة، فعلم أنّ من أصحابه من لا يقدر على البوح بحضرته صلى الله عليه وسلم وهو الذي أنزل الله فيه ما أنزل، ومن أمثلة ذلك من السيرة النبوية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة سبي هوازن …
يتبع