حتى النبي صلى الله عليه وسلم – أنقى الناس وأتقاهم – وجد نفسَه في زاوية الفوبيا فانظروا كيف أدّب أمتَه .
قصة رهيبة
اقرأها وتدبّروا معانيها
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، يقيم في المسجد النبوي لا يخرج منه، يقرأ القرآن ويذكر الله ويعظ من عنده في المسجد من الناس، في خير الليالي، في خير البقاع، في روضة من رياض الجنة.
كان أحياناً يقول : “من يُوقِظ صواحِبَ الحُجرات” أي من يوقِظُ أزواجه من النوم ليصلين معه، فاجتمعن عنده في ليلة من ليالي رمضان ثم انصرفن إلى الحُجرات، وكانت حُجرات النبيّ صلي الله عليه وسلم حوالي المسجد ملاصقة لجداره، لها “خَوْخة” وهو باب داخلي صغير يصل الحُجرات بالمسجد مباشرة.
في تلك الليلة المباركة أيقظ نساءه للصلاة في المسجد النبوي فحضرت معهنّ أمُّ المؤمنين صفية رضي الله عنهنّ جميعاً، ولم يكن لصفية نصيب من الحجرات بل كان مسكنها بعيداً عن المسجد، في بيت من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تأخّرت معهنّ لسبب من الأسباب اضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج من معتكفه لتشيعها، وجاء في رواية البخاري أنها همّت بالانصراف وحدها لكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي منعها قائلاً:
” لا تعجلي حتى أنصرف معك، فخرج معها”
وفي رواية أخرى قال:
“أقلبك إلى بيتك، فذهب معها حتى أدخلها بيتها”
إجراء طبيعي جداً، مفهوم ومعقول، لا حاجة لتبريره أو تفسيره، لكن الله تبارك وتعالى شاء بقدره أن يقع في تلك الليلة شيءٌ مما يثير في العادة نزعات الشياطين !
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وزوجُه بابَ المسكن بعيداً عن المعتكَف، وقف وقفة الوداع، وفي تلك اللحظة القصيرة الخاطفة شاءت صدفة القدر أن يمرّ رجلان من الأنصار، قيل هما أُسيد بن الحضير وعبّاد بن بشر وكانا من خير الأنصار كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
قالت أم المؤمنين صفية راوية الحديث:
” فلما رأيا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أسرعا”
فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
“على رِسْلِكما إنها صفية بنت حيي”
قالا:
“سبحان الله، يا رسول الله”
[ وفي رواية : وكَبُرَ عليهما ذلك]
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
“إن الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم، وإني خشيتُ أن يقذفَ في قلوبكما شيئاً – أو قال – شرّاً”
[متفق على صحته]
تأملوا كيف قَطَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صمتَ الليل بصيحة عالية مسموعة، وأقول صيحة مسموعة لأنه قد جاء في رواية أخرى في الصحيح قولها “ثم أجازا” أي جاوزا المكان – وفي أخرى – “ثمّ نفذا” أي ابتعدا عن المكان وخرجا منه، وفي رواية ابن حبان : “فلما رأياه استحيا فرجعا” أي تحوّلا عن مسارهما.
ولا أجد لكم في شرح هذا الحديث خيراً مما رواها الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق بإسناده المتصل إلى إبراهيم بن محمد قال:
“كنا في مجلس ابن عُيَيْنة والشافعي حاضرٌ، فحدث ابنُ عيينة بهذا الحديث، ثم قال للشافعي:
ما فِقْهُ هذا الحديث يا أبا عبد الله ؟
فقال الإمام الشافعي :
“إن كان القوم اتّهموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانوا بتُهمتِهِمْ إيّاه كُفّاراً، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أدّبَ من بعده، فقال إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا، حتى لا يُظَنَّ بكم ظنّ السوء، لا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يُتّهم وهو أمينُ الله في أرضه”
فقال ابن عُيينة :
“جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله، ما يجيئنا منك إلا كل ما نُحبّه”
[تاريخ دمشق 51/305]