روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
“الاقتصادُ والتؤدَةُ والسمتُ الحَسَنُ جزءٌ من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة”
رواه الترمذي وغيره وصححه الضياء في الأحاديث المختارة .
هذا الحديث ونحوه يدل على أنّ الخصال الحميدة التي كان يتمتع بها النجاشي قبل إسلامه هي من خصال الأنبياء وأخلاقهم .
النجاشي لم يكن نبيّاً ولم يدّع النبوة ، وكلامنا عن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فقد أدخل الإمام البيهقي قصة النجاشي في دلائل النبوة ، وبوّب لها باباً مستقلاً سمّاه : “بابُ الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية وما ظهر فيها من الآيات وتصديق النجاشي ومن تبعه من القُسس والرهبان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم”. اهـ
من تلك الآيات التي أشار إليها البيهقي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : تفرقوا في الأرض .
فقالوا له : أين نذهب يا رسول الله ؟
قال :
ها هنا
قالت أم سلمة : “وأشار إلى الحبشة وكانت أحبّ الأرض إليه أن يُهاجر قِبَلها” اهـ
إنّ مما أعجب العلماء من هذه الحادثة العظيمة أنّ السيّدة رقية بنت رسول الله – عليهما السلام – كانت في الصف الأول من المهاجرين ؟؟
فكيف يعقل أن يغامر النبي صلى الله عليه وسلم بابنته وخيرة أصحابه لو لم تكن لديه ثقة مطلقة بعدالة النجاشي ومروءته ؟
كيف يسمح النبي صلى الله عليه وسلم لابنته بالخروج بعيداً عن عشيرتها وقد وصف القرآن الكريم حال المؤمنين في تلك الأيام العصيبة بقوله تبارك وتعالى :
“وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ”
كان المؤمنون يتخوّفون من الخطف والقتل والسبي … لِمَ لًمْ يُشِرِ النبيُّ إلى العراق وبلاد فارس ؟
أو إلى الشام ومصر وبلاد الروم ؟
أو إلى خيبر حيثُ يتحصّن يهود زفر بحصنهم المنيع ؟
أو إلى أخواله العرب في يثرب ” المدينة المنورة ” ؟
لماذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك البلاد وراءَ ظهره وأشار بسبّابته الكريمة :
ها هنا
إلى الجنوب الغربي أي ما وراء البحار من بلاد الحبشة قائلاً :
“إنّ بها ملكا لا يُظلم أحدٌ عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه”
ها هنا نرجع إلى تفسير الآية :
“ولتجدَنَّ أقربهم مَوَدَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى”
فقوله سبحانه وتعالى : “ولَتَجِدَنّ” فيه إشارة لطيفة بأن المخاطَب هو الذي يسعى إلى القرب ، فإذا سعى إلى التقارب وجد أقرب الناس مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ، ولذلك قلنا إن الآية الكريمة تتكلم عن التقارب وهو الفعل من طرفين ، وقوله سبحانه : “أقربهم” صيغة تفضيل أي ستجد أقرب الناس مودّةً من غير المسلمين إلى المسلمين الذين قالوا إن نصارى ، ثم أتبع الحق تبارك وتعالى ذلك بالتعليل فقال :
“ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ”.
وذلك ما كان من النجاشي فإنه لم يسبق إلى الخروج للقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسع إلى التقرّب منه بل النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي اختاره وسعى إلى قرابته وجواره فقال لأصحابه :
“ها هنا”
فلم يغضب إذ دخل الفقراء المهاجرون إلى بلاط قصره فلم يسجدوا له ، وقد علم أنهم لم يفعلوا ذلك تحقيراً لقدره ..
ولم يستكبر بما له من جاهٍ ومقام في قومه …
لم يستكبر بملكه وغلبته ، ولم يتعال بدينه وثقافته ، ولم يتعصّب لجنسه وعرقه ولونه …
قابل التوقير بالتوقير والاحترام بالاحترام وردّ السلام بالسلام .
فما الذي تبقى ؟
بقي لنا مراجعة الاستجواب الذكي من النجاشي والجواب العبقري من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ليتعلم المسلم كيف يصف نبيَّه ، وكيف يفرض على غير المسلمين احترامه من آمن منهم ومن لم يؤمن فلنستمع الحوار الحضاري الإنساني الرائع ..
يتبع