بعد انتهاء الحملات الصليبية، ثم اكتشاف الطريق البحري البديل إلى الشرق الأقصى [معبر رأس الرجاء الصالح]، بالتزامن مع انتقال مركز الخلافة الإسلامية ومجمع التراث الإسلامي إلى الباب العالي في اسطنبول فقدت “مصر” مكانتها وأهميّتها الإقليمية والدولية على جميع المستويات؛ السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وتراجع دورها شيئاً فشيئاً في ظلّ الانهيار الاقتصادي وفساد حكم الجنرالات “المماليك” ولذلك لم تعد مصر “أمَّ الدنيا”.
حتى جاء “محمد علي باشا” فاستهلّ حكمه بالقضاء على خصومه، وشرع في تأسيس الدولة المصرية الحديثة، وعمل لذلك أعمالاً، منها الحسن المحمود، ومنها القبيح المذموم، والله حسيبه، لكنه في المحصّلة نجح في النهوض بمصر من جديد رغم الديون والنقص في التمويل، وهذا ما لا يختلف عليه المؤرخون .
أربعة أمور ساعدت “علي باشا” في النهوض بمصر:
– الأمر الأول لحُسن الحظ، إذ كانت مصر في زمانه مَجْمَع العماليق فيها بقيّة من طوال الباع في المعرفة والإبداع.
– والثاني ؛ نجاحه في طيّ صفحة المعارضة المناهضة نهائياً بمذبحة القلعة وهي من أعظم الجرائم الإنسانية، في ساعة واحدة في يوم واحد كـ”يوم الصفقة” [“يوم الصفقة” من أشهر أيام العرب في الجاهلية].
– والثالث؛ إصلاح نظام الدولة، وتحديث مؤسسات النُظم الإدارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلاحية ولذلك لُقّب بمؤسس الدولة المصرية الحديثة.
– الرابع بتدشين المشاريع الريادية العملاقة التي ساهمت في النهوض بمصر وبروزها بين الأُمم، ويكفي للدلالة على ذلك مشروع عملاق واحد قفز بمصر والعرب من عصر الجهل والتخلّف إلى عصر المعرفة والحداثة، ولذلك بتأسيس المطبعة الأميرية ببولاق [مطبعة بولاق] وكانت الأولى من نوعها في مصر والعالم العربي، نتاجها طيّب وثمارها حلوٌ، حقيقي وليس فنكوشاً.
وليتك تعلم ما أهميّة المطبعة في ذلك الزمان حيث كان الناس بلا كهرباء ولا تلفاز ولا مذياع ولا انترنت ولا كتب ولا جرائد ولا مجلات؟
بمثل تلك المشاريع الإبداعية نهضت مصر، وبمثل ذلك كان الناس تبعاً لمصر، خيارهم لخيارهم وشرارهم لشرارهم، أما المشاكل المزمنة كالديون والنقص في التمويل فكانت منذ عهد علي باشا إلى يومنا هذا.