أئمة الحديث والسنة والجهاد في الشام من السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يعلمون أن ابن ثوبان راوي حديث “بعثت بالسيف” قد أصابه شيء في عقله ، وكان يعلمون أن الرجل الصالح قد كان قبل مرضه من عقلاء المسلمين وعبّادهم ولولا ذلك ما أخرجوه معهم بصحبة نبلاء الشام وأشرافهم .. والأوزاعي في تلك الأيام كان للشاميين بمنزلة الإمام مالك عند أهل المدينة المنورة .
قال ابن الصلاح رحمه الله [ ت 643 هـ ] في النوع الثاني والستين من علوم الحديث : ” معرفة من خلط في آخر عمره من الثقات ” – قال – : ” وهذا فنٌّ عزيز مهمّ لم أعلم أحداً أفرده بالتصنيف واعتنى به مع كونه حقيقاً بذلك جداً ” اهـ وعلّق عليه الحافظ العراقي بقوله : ” وبسبب كلام ابن الصلاح أفرده شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي بالتصنيف في جزء ” .
ثم قال الحافظ ابن الصلاح : ” وهم منقسمون : فمنهم من خَلط لاختلاطه وخرفه [ يعني لكبر السنّ ] ، ومنهم من خلط لذهاب بصره ، أو لغير ذلك ” اهــ
أقول : من تتبّع أحوال المختلطين تبيّن له صحة كلام ابن الصلاح …
فمن الرواة من اختلط لكبر سنّه وخرفه مثل “سفينة” أو ” رتن الهندي ” زعم أنه صحابي قد شهد المغازي مع النبي صلى الله عليه وسلم وحدّث رتن في القرن الإسلامي السادس عن رسول الله بالسماع المتصل فصدّقه بعض المغفلين فأسندوا عنه . صاروخ هندي يعمل بالوقود الصلب .
ومنهم من كان ثقة ثبتاً صاحب كتاب فلما عمي خلّط فكان يُلقّن فيتلقّن مثل عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف .
ومنهم من كان ثقة ثبتاً حافظاً وهو مصاب بالعمى لا كتاب له فاختلط أو تغير عقله لعلة أخرى أصابته كما قال أبو معاوية الضرير : حفظت من الأعمش ألفا وستمائة فمرضت مرضة فذهب عني منها أربعمائة . وقال الدراوردي : أصاب سيهلا يعني ابن أبي صالح علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه . ومثله أبو داود الطيالسي أصيب بالجزام والطاعون فاختلط عقله .
ومنهم من احترقت كتبه أو سقط على رأسه فاختلط كما وقع لعبد الله بن لهيعة حافظ مصر إذ سقط عن حمارة فأصيب دماغه واحترقت كتبه فذهب كثير من حديثه والأمر لله من قبلُ ومن بعد …
ومنهم من أصيب بالجنون كما زعم الأوزاعي في ابن ثوبان .
وغير ذلك من الأقسام مع اختلاف درجات الخلط والضعف .
من كانت لديه معرفة بعلوم الطب الحديث النفسي والعقلي أمكنه تشخيص بعض الأمراض العقلية الغامضة التي أصيب بها بعض الرواة من السلف في قديم الزمان مثل عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان رحمه الله .
الرجل الصالح العابد ابن ثوبان كان مصاباً [ من وجهة نظري والله أعلم ] بمرض الفصام التفاعلي [ Reactive schizophrenia ] وهو مزيج من الأمراض النفسية والعقلية يُصاب بها بعض الناس لأسباب وراثية أو مكتسبة ، تظهر أعراضه الكامنة عند تعرّض المريض لضغوط نفسية كبيرة ، وأخطر ما في الأمر أن المريض نفسه قد يجهل إصابته بالمرض بل قد يخفى مرضه عن العقلاء من حوله .
يصاب مريض الفصام باضطراب فكري وسلوكي ، كما يعاني مريض الفصام من الهلوسة أو ما يُعرف بالتوهّم وسماع الأصوات ، فأحياناً يتخيّل أن شخصاً حدّثه بكذا وكذا فيخاله حقيقة وهو كذب محض ، ومن أعراض مرض الفصام جنون الارتياب ، والميل إلى العزلة ، وإهمال الذات وترك العناية بالنفس والملبس والمسكن والمطعم ، وقد تنتابه نوبات غضب تفزع من حوله .
المشكلة هنا أن ابن ثوبان المعمّر لم يختلط لكبر سنّه قبل موته بشهر أو شهرين ، أو سنة أو سنتين ، ابن ثوبان أصيب بتلك الأعراض المرضية قبل من موته بزمن طويل وقد حدّث الناس بعض مرضه لسنوات طويلة .
انتبه لذلك يا طالب الحق .
الأوزاعي مات سنة 157 هـ أي قبل موت ابن ثوبان بثمانية أعوام !
أما حادثة الكواكب التي نعت فيها الأوزاعيُّ ابنَ ثوبان بالجنون فكانت قبل ثمانية عشر عاماً من موت ابن ثوبان ، لأن ابن ثوبان ولد سنة 75 ومات سنة 165 ، وقد أجمع المؤرخون على وقوع تلك الظاهرة الفلكية التي شوهدت في سماء الشام سنة 147 كما أرخه شيخ البخاري خليفة بن خياط في تاريخه قال : ” سنة سبع وأربعين ومائة وفي هذه السنة تساقطت الكواكب ” .
وقال ابن الجوزي في المنتظم 8 / 102 : ” سنة سبع وأربعين ومائة فمن حوادثها أن الكواكب تناثرت كثيراً ” .
وكذلك أثبته سِبطُه الحافظ شمس الدين يوسف في تاريخه ” مرآة الزمان ” ، والحافظ ابن الأثير في تاريخه الكامل قال : ” ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة وفيها تناثرت النجوم ” ، والحافظ أبو المحاسن الحنفي في تاريخه ” النجوم الزاهرة ” قال : ” وفيها – يعني سنة 147 – انتثرت الكواكب من أول الليل إلى الصباح فخاف الناس عاقبة ذلك ” اهـ
فالظاهرة الفلكية كانت في ليلة مشهودة من ليالي ذلك العام فكان الناس يسمّون ذلك العام بعام الكواكب لهَوْل ما رأوه في تلك الليلة كما روى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن مروان الطاطري الدمشقي [ ثقة من رجال مسلم ] أنه قال : ” ولدتُ سنة سبع وأربعين ومائة عام الكواكب ” .
وفي هذه السنة تحديداً اكتمل بناء ” بغداد ” مدينة السلام عاصمة الخلافة وقيل سنة 149 استتم بناء سور خندقها وجميع أمورها [ المعرفة والتاريخ 1 / 134 ] ، وكان ذلك في خلافة المنصور وكان ابن ثوبان يبلغ من العمر 72 عاماً .
يعني أن الرجل كان معتل العقل قبل تحوّله إلى بغداد لتولي وزارة العدل أو المالية !
بالطبع سيرد عليك سؤال عريض : كيف يعقل أن يولي بنو العباس شخصاً مصاباً بالجنون والخرف على المظالم وبيت المال ؟
للحديث بقية