رسالة زكيّة إلى أصحاب الشيخ ابن بيّه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد

يا أصحاب الشيخ ابن بيه – أطال الله بقاءَه وأمتعنا بعلمه – ألا ترون إلى شيخكم قد جاوز الثمانين من العُمر؟

ألا يذكّركم كبرُ سنّه بقول التابعي الجليل سعيد بن جبير صاحب ابن عباس رضي الله عنهما حين كبر وأحسّ بدنوّ أجله فجلس بأعلى المسجد ليلاً وحوله أناسٌ من طلبة العلم فقال لهم:

“يا معشر الشباب سلوني قبل أنْ لا تروني، فإني أوشكتُ أن أذهب من بين أظهركم، فأكثر الناس مسألته”

 [ رواه الأزرقي في أخبار مكة]
هل تعلمون ما  فتح الله من خير بصيحة ابن جبير؟

أحسّ الشباب من أتباع التابعين في أواخر القرن الإسلامي الأول بغدر الزمان فأكثروا مسألته فكان من بركات جلستهم تلك أن سأله سائل عن خبر يخطئ فيه الناس فاستدرك عليه سعيد بن جبير وصوّبَه بحديث نبوي مُسند طويل أخرجه البخاري في صحيحه في قصة أم إسماعيل عليهما السلام..

يا لها من بركة نافعة …

يا أصحاب ابن بيه لا يفلتنّ منكم الشيخ الكبير كما أفلت قرينُ الإمامِ مالك، الإمامُ الليث بن سعد من المصريين، بذل لهم نفسَه ليعلّمهم وأسند إليهم حديث عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوماً فقال: 

“هذا أوان يُرفع العلم”

فقال رجل من الأنصار يُقال له لبيد بن زياد: يا رسول الله ، يُرفع العلمُ وقد أثبت ووعته القلوب ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

“إنْ كنتُ لأحسَبُك من أفقه أهل المدينة، وذكر له ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله” .. إلخ الحديث .

[رواه النسائي وابن حبان في الصحيح]

وأسند إليهم عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

“إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً ينتزعه منهم بعد أن أعطاهموه، ولكن يقبض العلماء، فإذا لم يُبقِ عالماً أخذ الناس رؤوساً جهّالاً يستفتونهم فيُفتونهم بغير علم، فيُضلّون ويَضِلّون”.

[ رواه أبو العباس الأصم وابن حبان في الصحيح والطبراني]

الليث – وما أدراك ما الليث – كان مناراً من منارات العالم الإسلامي، وعاءاً مليئاً بالحكمة والفقه والحديث، قال له بعض المصريّين:

                             “أمتع الله بك يا أبا الحارث، إنا نسمعُ منك الحديث ليس في كُتبك” !

فأجابه الليث:

“أوَ كلّ ما في صدري في كُتبي ؟! لو كتبتُ ما في صدري ما وسعه هذا المركب”

[ رواه ابن يونس الصدفي في تاريخ المصريين وأبو نعيم في حلية الأولياء]

فاخر أهلُ مصر أهلَ الأمصار بشيخهم الليث حتى قال قاضيها يحيى بن عبد الله بن بكير:

“الليثُ أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك”

وزاد في رواية:

” ورأيتُ من رأيتُ فما رأيتُ مثل الليث، كان عربي اللسان، حسن القراءة، ويحفظ الحديث والقرآن والشعر، حسن المذاكرة، وما زال يُعدّد خصالاً حميدة جميلة حتى عقد عشرة”

[رواه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج7/180 وانظر شرح البخاري للسفيري]

 قلتُ : هذي شهادة ابن بكير راوي الموطأ عن الإمام مالك، هذي شهادة صاحب الإمامين؛ مالك بن أنس والليث بن سعد، حين كان أهل الحجاز يقولون:

 “لا يُفتى ومالك في المدينة”

 فيجيبهم أهل مصر بقولهم :

 “ولا يُفتى والليث في مصر”

إنّ مصر بطولها وعرضاً في الزمان الأول كانت خالصة للإمام الليث لا يضاهيه فيها أحد حتى قال ابن سعد صاحب  الطبقات الكبرى :

“إنّ الليث كان قد استقلّ بالفتوى في زمانه بمصر” أهـ

[ الطبقات الكبرى ج358/7]

وشهد على مثله راوي الموطأ عبد الله بن وهب الفهري المصري فقال:

“لولا مالكٌ والليثُ لضللنا”

وفي رواية : “لضلّ الناس”  

[تاريخ دمشق لابن عساكر وتهذيب الكمال]

وبالغ سعيد بن أبي أيوب فقال وهو يضرب يدَه على الأخرى:

“لو أنّ مالكاً والليث اجتمعا كان مالك أبكم، ولَباع الليثُ مالكاً فيمن يريد”

 [ تاريخ دمشق لابن عساكر]ُ

للحديث بقية

نسخة للطبع نسخة للطبع