ومن أعجب العجب أنّ السيوف كانت تتقطع بيد شبيب من شدّة بأسه وكثرة مبارزته في المعركة الواحدة ولذلك كان يتقلّد سيفين اثنين ويحمل بيده القويّة عموداً من حديد يقاتل به فلا يكترث بعد ذلك بأحد !
روى المؤرخون أنه قد نزل يوماً منزلاً فأمر بطعام وشِواء فأكله ثم توضّأ وصلى بأصحابه فنذِرَ به الحجاج أمير العراق فبعث إليه جيشاً بقيادة سعيد بن المجالد، [والإرهابي المطلوب كما نقول في لغة عصرنا ؛ صيدٌ ثمين] فلما دنا الجيش من شبيب وأحاطوا بوِكْرِه ليُثبتوه أو يقتلوه لم يقطع شبيبٌ صلاتَه ولم يخفّفها بل صلى صلاةً تامة بتطويل وطمأنينة ثم سلّم فلبس درعه وتقلّد سيفيه وأخذ العمود الحديدي وركب بغلته ثم خرج إليهم وهو يقول :
“أنا ابن المُدَلّه [الحمقاء] لا حُكمَ إلا لله”
ثم أمَّ شبيبٌ أميرَ الجيش سعيد بن المجالد لا يكترث بمن حوله فضربه بالعمود الحديدي فقتله فانهزم جيش سعيد وحمل شبيبٌ على جيش آخر يتربّص به فقتل أميرهم وهرب الناس من بين يديه ولجأوا إلى الكوفة وتحصّنوا بأسوارها فقصدها شبيب ومن معه فغلب على الكوفة وفرّ منها الحجاج وكان من شأنه ما ذكرته في المقال السابق، وعجائب أخرى لا تقلّ غرابة ذكرها المؤرخون في كتبهم.
ولمّا عجز أهل العراق من السنة والشيعة عن صدّ الشبيبية التكفيرية الخوارج أطفأ اللهُ نارَ فتنتهم بغرق شبيب في نهر دجيل، ألقاه جواده على الجسر وعليه الدروع فغرق وكان أمر الله قدَراً مقدوراً.
فلما رأى الشبيبية إمامهم يغرق في الماء صاح أحدهم مشدوهاً :
أغرقاً يا أمير المؤمنين ؟
فأجابه شبيب بآخر ما تلفّظ به :
“ذلك تقدير العزيز العليم”
مات شبيب ولم يكن على شيءٍ من الحقّ، غَرِقَ فغرقت معه فتنته وتشتت جمعه وأبيد مذهبه وصدقت فيه النبوءة المحمدية: “كلما خرج منهم قرنٌ قُطع”.
نهاية شبيب مثل نهاية الامبراطور الصليبي بربروسا الذي أرعب أجناد الشام قبل أن تطأ قدمه بلاد الشام فأغرقه الله في نهر كاليكادوس وأراح المسلمين منه كما قصصتُ عليكم من قبلُ.
قال بعض المؤرخين :
“لولا أن الله تعالى قهر شبيباً بما قهره من الغرق لنال الخلافة ولما قدر عليه أحد”.
أما أمُّ شبيب فهي “جهيزة” الحمقاء كما ذكرنا سابقاً وفيها يقول الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام :
“جهيزة هي التي يُضربُ بها المَثَل في الحُمْقِ لأنها لمّا حمِلَت قالت : في بطني شيء يَنقُزُ فقيل : ” أحمقُ من جهيزة”.
ثم استدرك الذهبي فقال :
“ويُروى عنها ما يدلُّ على عدَم الحُمق فإنّ عمر بن شبّة قال حدثني خلاد بن يزيد الأرقط قال : كان شبيب يُنعى لأمه فيقال لها قُتل ، فلا تقبَل فلمّا قيل لها إنه غرق قَبِلَتْ ، وقالت : إني رأيتُ حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمتُ أنه لا يُطفئه إلا الماء” اهـ .
في الختام أقول لإخواني وأبنائي من الشباب المتحمّسين:
إنّ الشجاعة المفرطة ليست دليلاً على الصواب ولا عنوان صحة فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور …
الخوارج كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “سفهاء الأحلام” كلاب النار، تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه وإن كانت الشجاعة سِمَتَهم على مرّ العصور .. لكن لشبيب طابع خاص بصِبْغة داعشية مميزة ولذلك قال الشهرستاني في الملل والنحل :
“إن شوكة شبيب وقوته ومقاماته مع المخالفين مما لم يكن لخارج من الخوارج ” !
فاعتبروا يا أولي الأبصار