لماذا تخلّف المسلمون عن ركب الحضارة الإنسانية ؟
لماذا تخلّف المسلمون في الصناعة … في الفلاحة … في الطبّ … في الفلك وعلوم الفضاء … في الاختراع والابتكار … في كل شيء ؟
لماذا لماذا لماذا ؟
تكلّم القرآن الكريم عن علوم الطبيعة فقال سبحانه وتعالى :
” إنا كلَّ شيء خلقناه بقَدَر “
قال الحسن البصري في تفسيرها : ” قدر الله لكل شيء خلقه قدره الذي ينبغي له ” .
وقال الله جل وعلا : ” والقمرَ قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، لا الشمسُ ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار ، وكلٌّ في فلَكٍ يسبحون ” .
وبيّن فوائد المعرفة بعلوم الطبيعة فقال سبحانه : ” هو الذي جعل الشمسَ ضياءً والقمرَ نواراً ، وقدّره منازلَ لتعلموا عددَ السنين والحساب ، ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، يفصّل الآيات لقوم يعلمون ” .
وبيّن سبحانه فضيلة العلم فقال جل وعلا : ” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ” . وهذا عام جامع في علوم الدين وعلوم الدنيا ، وقد صحّ أنّ رجلاً من الأعراب كان يصطاد بالكلاب والجوارح فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إني أُرسل كلبيَ المُعلَّم وأذكر اسمَ الله ، وأُرسل كلبي الذي ليس بمعلَّم وأذكر اسم الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا أرسلتَ كلبَك المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله عليه فكُل ” … إلى آخر الحديث وفيه أنزل الله تعالى قوله في سورة المائدة :
” يسألونك ماذا أُحل لهم ، قل أُحلّ لكم الطيبات ، وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلمونهنّ مما علّمكم الله ” … إلى آخر الآية .
وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” تداووا عبادَ الله ، فإن الله لم يُنزل داءً إلا وقد أنزل له شفاءً ، عَلِمَه من عَلِمَه ، وجهِلَه مَنْ جَهِله ” .
الحديث الشريف فيه دلالة ظاهرة على فضيلة المعرفة ، وفضيلة علوم الطبيعة ، ويشير إلى الفارق بين الناس فمنهم من يعلم ومنهم من يجهل .
وفيه دلالة على فضيلة الاستفادة من المعرفة والعلوم ، لأنّ من الناس من يعلم الدواء ولا ينتفع بعلمه ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالانتفاع فقال : ” تداوَوْا عبادَ الله ” .
ولذلك أعاب النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار عدم انتفاعهم بما يعلمون من علوم الطبيعة التي توارثوها بالتجربة العملية كما بيّناه سابقاً في قصة تأبير النخل من الرواية المتواترة الصحيحة ، لأنّ الأنصار كانوا أهلَ فلاحة يتوارثون علومها وقد علموا بالتجربة التطبيقية أنّ في النخل طبعاً قدّره الله تقديراً ، إذا أُبّرت الأنثى أي لُقحتْ بطلع النخل الذكر جاء الثمر رطباً طيّباً صالحاً ، وإن لم تلقّح جاء الثمر شَيْصاً فاسداً لكنهم أعرضوا عن العلوم الطبيعية ورجعوا إلى المرجعيّة العليا ؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن التأبير ولم يُطلعوه على ما لديهم من علوم ومعارف.
فأشار إليهم النبي بترك التلقيح ولم يكن صلى الله عليه وسلم خبيراً بعلوم الطبيعة الزراعية فجاء شيصاً وفسد المحصول الفلاحي لذلك العام ، وضربت ميزانية الدولة الإسلامية فقال صلى الله عليه وسلم قوله الشهير المتواتر :
” أيها الناس إنما أنا بشر ، أنتم أعلم بأمور دنياكم ، إذا كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به ، وإذا كان شيئاً من أمر دينكم فإليّ ” .
تفكّر ، تأمّل ، تدبّر .. ما يعني هذا الكلام من رسول الله ؟
يعني : أنّ أمر الدين غير أمر الدنيا
يعني : أن علوم الدين غير علوم الدنيا
كما يعني أن على المسلم أن ينتفع بما يعلم من علوم الدنيا ليصلح دنياه .
إنّ الإسلام العظيم الصالح لكل زمان ومكان قد حضّ على تطوير المعارف الدنيوية ، بل حضّ على تبليغها وتناقلها لينتفع بها الناس ، ولئن كان الأنصار أعلم بعلوم الزراعة والفلاحة من المهاجرين كما تبيّن لنا من حديث التأبير ، فقد كان المهاجرون من أهل مكة أعلم بعلوم التجارة ورعاية الماشية وغيرها ، كما في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ عليهم وهم يجنون الكَبَاثَ [ أي ثَمَرُ شجرة بريّة تُدعى الأراك ، يشبه التين يُعلّف الماشية ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” عليكم بالأسوَد منه فإنه أطيَبْ ” .
فقالوا : أكنتَ ترعى الغَنَم ؟
قال : ” نعم ، وهل من نبيٍّ إلا رعاها ” .
وفي رواية أخرى : ” نعم كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكّة ” .
هنا كانت للنبي صلى الله عليه وسلم معرفة وتجربة وخبرة لم تكن لدى الأنصار فنقل إليهم معرفته بالعلوم الطبيعية المتعلّقة بثمرة الأراك وما تشتهيه الغنم ليُصلح الناس دنياهم ، وطوّر الأنصار علومهم المتعلّقة بجودة الأعلاف .
ولو جمعنا النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تبيّن فضيلة العلوم الطبيعية وفضيلة تعلّمها والاستفادة منها لتطلّب ذلك كتاباً ضخماً …
فأين تكمن المشكلة إذاً ؟ لماذا وقف علماؤنا وجهاً لوجه للصدّ عن علوم الطبيعة ؟
هذا ما سنتعرّف عليه إن شاء الله …
وللحديث بقية