زعم الزعفراني صاحب الشافعي أنّ شيخه الإمام لما خرج من مكة المكرمة إلى مصر المحروسة عرّج ببغداد فأقام بها أشهراً قبل أن يرجع منها إلى مصر، وكان الشافعي يوصي أصحابه بقوله:
“لا أجعل في حِلٍّ من روى القديم عني”
ويعني بالقديم ما أملاه من كُتب فقهية في العراق كمصنّف “الكتاب” في أصول الفقه وكانوا يسمّونه “الرسالة”، وكتاب “المحجة” في الفقه، وكانوا يسمّونه؛ “العراقي” !
اختلف المؤرخون في نوع المراجعة الفقهية التي قام بها الشافعي؛
هل كانت مراجعة جزئية لبعض فروع الفقه.
أم مراجعة شاملة انتهت بالتراجع عن عامة الآراء الفقهية القديمة ؟
أم كانت مراجعة شاملة أفضت إلى تراجع يسير عن نزرٍ قليل من آرائه الفقهية الفرعية؟
فزعم عمدة الشافعية أبو الحسن الماوردي [ت 450هـ] صاحب الحاوي الكبير في الفقه الشافعي “أنّ الشافعي غيّر جميعَ كُتبه القديمة في الجديد إلا الصَّداق [يعني فصول مهر النكاح] فإنه ضرب على مواضع منه وزاد مواضع”اهـ فهذا يفيد المراجعة الشاملة والتراجع الشامل ومما يدلّ على المراجعة الشاملة تأليف “الرسالة” في أصول الفقه على مرتين، الرسالة القديمة وهي التي أملاها في العراق، والرسالة الجديدة وهي التي أملاها في مصر [وهي النسخة المطبوعة بتحقيق الشيخ أحمد شاكر]، وزعم الفخر الرازي في مناقب الشافعي أنّ الشافعي رضي الله عنه صنّف الرسالة القديمة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة الجديد، قال: “وفي كل واحد منهما علم كثير”.
وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على فضيلة السلف الصالح رضوان الله عليهم، لم يجد الأكابر منهم حرجاً في المراجعة، ولم يجدوا في استبدال الرأي بالرأي الأخْيَرِ حرجاً، بل لم يجدوا في التراجع عن المذهب الديني حرجاً متى كان التحوّل إلى الأصوب والأصلح، وقد ذكر الإمام ابن ابي حاتم الرازي في مناقب الشافعي أنّ شيخه الإمام الثقة محمد بن مسلم بن وارة الرازي حدثه أنه سأل الإمام أحمد بن حنبل قائلاً: ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحبُّ إليك أو التي بمصر ؟ فأجابه :
“عليك بالكُتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق، ولم يُحْكِمْها، ثم رجع إلى مصر فأحْكَمَ تلك”اهـ
ولما كان أصحاب الشافعي وتلامذته خلقاَ لا يُحصون عدداً وجب التنبيه على أبرز رواة المذهب القديم ورواة المذهب الجديد لئلا يختلط العراقي بالمصري، وممن نبّه على ذلك الإمام السخاوي في كتابه “التوبيخ لمن ذم التاريخ” [ص 177] فقال:
“فائدة؛ رواة القديم عن الشافعي أربعة؛ الزعفراني وأبو ثور وأحمر والكرابيسي، ورواة المذهب الجديد عنه ستة؛ المُزني والربيع الجيزي والربيع المرادي والبوطي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى”اهـ
فما العيب في المراجعة ؟
ما العيب في التصحيح والتنقيح
ما العيب في التجديد والتطوير …
فقه عراقي وفقه مصري ، قديم وجديد فما العيب في وجود فقه فرنسي وفقه كاميروني !
وما العيب في أن يكون لإخواننا من الجِنّ فقه خاصٌّ بأحوالهم ومصالحهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
“أرسلتُ لكلّ أحمر وأسود”