مواثيق الصلح والمعاهدات الفردية في الإسلام

ما حكم الإسلام في فرد ينتمي إلى دولة أو جماعة لها إمام مبايع على الانقياد والسمع والطاعة ، وتكون تلك الدولة أو الجماعة في حالة حرب مع جهة أخرى ، ثم يقوم ذلك الفرد بعقد معاهدة صلح خاصة به مع تلك الجهة المحاربة ، هل يُلزم بذلك العهد أم لا ؟

هذه من النوازل التي تسلط الضوء على منزلة العهود في الدين الإسلامي ، والنصوص العامة من الكتاب والسنة في وجوب الوفاء بالعهد وتحريم الغدر والخيس بالعقود كثيرة جداً كقوله تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ” ، ” وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً ” إلى غير ذلك من النصوص العامّة .

أما النصوص الخاصة بهذه المسألة فمن أجودها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال : ” ما منعني أن أشهد بدراً [ أي القتال في غزة بدر ] إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسيل [ أي خرجا مهاجرين من مكة إلى المدينة المنورة ] ، قال فأخذنا كفّار قريش ، قالوا : إنكم تريدون محمداً ؟

فقلنا : ما نريدُه ، ما نريدُ إلا المدينة

قال فأخذوا منّا عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر فقال : ” انصرفا ، نَفي لهم بعهدهم ، ونستعينُ اللهَ عليهم ” .

انتهى الحديث وفيه من الفوائد ما لا يسع المقال سردها فنكتفي بالإشارة إلى أمرين :

الأول : أن المعاهدة كانت تحت الإكراه والأسر ، فالمعاهدة بعدم المشاركة في القتال كانت حيلة حذيفة وأبيه للانعتاق من قبضة الكفار المحاربين .

الثاني : حاجة النبي صلى الله عليه وسلم للمقاتلين يوم بدر كانت ضرورة كلية كما في الصحيح عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر يوم بدر إلى المشركين وهم ألف ، ونظر إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيّف فاستقبل القبلة ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه قائلاً :


” اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض ” . اهــ

ويفهم من استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم أن هزيمة المسلمين في تلك المعركة تعني نهاية الإسلام ولذلك قال الفقهاء إن غزوة بدر هي أعظم معركة مقدّسة في التاريخ الإسلامي  فوصفوها ب” غزوة بدر الكبرى ” لكبر قدرها مع صغر حجمها .

وبالرغم من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مزيد من المقاتلين لتعديل الكفّة الراجحة لصالح المشركين أوفى النبي صلى الله عليه وسلم بالعهد للمشركين المحاربين فقال لهما : ” انصرفا ” .

وكان من جزاء الإحسان والوفاء بالعهد أن أنزل الله ملائكته لنصرة الإسلام وتكملة النقص وترجيح الكفّة والله جل وعلا يقول : ” وكان حقّاً علينا نصرُ المؤمنين ” .

ونطرح هنا سؤالاً آخر !

لماذا لم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من حذيفة وأبيه أن يخرجا معه فإذا التقى الجمعان صرخا بنقض المعاهدة قبيل البدء بالقتال ، فيكونان بذلك قد تحلّلا من عقدة الميثاق ؟

الجواب : لقوله تعالى : ” فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ” .

قال ابن كثير : أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء أي تستوي أنت وهم في ذلك وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى ” فانبذ إليهم على سواء ” أي على مَهْل ” انتهى .

وحديث حذيفة يشهد لصحة تفسير الوليد بن مسلم الدمشقي ومما روي في ذلك ما رواه أصحاب السنن بإسناد صحيح عن سليم بن عامر قال ” كان معاوية يسير إلى أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا بشيخ على دابّة يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، وفاءً لا غدراً ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

” من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّ عقدة ولا يشدّها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء ” .

قال فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ عمرو بن عبسة رضي الله عنه . اهـــ

ولذلك كنا نقول : إن هجمات 11 سبتمبر التي فرح بها ابن لادن وأصحابه إنما نجحت بالغدر والخيس بالعهد فكانت العاقبة سقوط الإمارة الإسلامية في أفغانستان ، وكذلك يجزي الله الخائنين .

فكانوا يقولون : إن ابن لادن نبذ إليهم بالحرب ونبذوا إليه ، ولم يفهموا مرادنا ، لأننا نقصد المهاجمين التسعة عشر الذين ذهبوا إلى السفارات الأمريكية فأخفوا  انتسابهم إلى الملا عمر وابن لادن وأظهروا تابعيّتهم للملك فهد والدولة السعودية المسالمة للولايات المتحدة ، ثم وقعوا بأيديهم على طلب تأشيرة الفيزة وما تتضمنه من التزامات . فلما دخلوا بذلك الأمان حاربوا وخاسوا بعهدهم .

   فلما سُقِط بأيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا فتشوا عن أدلّة ليواروا بها سَوْءاتِهم فكانت حجتهم لتبرير غدرتهم حديث مقتل كعب بن الأشرف ولا حجة لهم فيه لأن كعباً أعلن الدخول في الحلف المحارب للنبي صلى الله عليه وسلم والذين قتلوه أعلنوا لكعب انتسابهم إلى الجهة المحاربة .

     ومما جاء في هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد عن رفاعة بن شدّاد قال كنتُ أقوم على رأس المختار [ يعني ابن أبي عبيد الثقفي ] فلما تبيّنت كذابته هممتُ وأيم الله أن أسلّ سيفي فأضرب عنقه ، حتى ذكرتُ حديثاً حدثنيه عمرو بن الحمق قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

” من أمّنَ رجلاً على نفسه فقتله أعطي لواء الغدر يوم القيامة “

وفي رواية أخرى :

” أيما رجل أمّن رجلاً على دمه ثم قتله ، فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافراً ” .

نسخة للطبع نسخة للطبع