أثارت تصريحات أبي عبيدة يوسف العنابي أمير قاعدة الجهاد ببلاد المغرب الإسلامي موجة من التفاعل الإعلامي، فالساحة الإقليمية في دول الساحل والصحراء تغلي كغلي المِرجَل، والعنابي معروف بالحدّة في الصراحة وقد جاء كلامه هذه المرة كما عهدناه حتى في المساحات التي أدلى فيها بأجوبة منقوصة أو تجنّب الجواب عنها كتجنب الحديث عن عضوية مجلس الشورى لأن من يعرف القاعدة يعرف أن ذلك مما يُمنع الخوض فيه إذ يُحرم عندهم إفشاء الأسرار فلا يُستفاد من سكوته إقرار .. يا وسيم !
أما إنكاره المسؤولية عن مجزرة صولحان 2021 التي قُتل فيها عشرات المدنيين منهم نساءٌ وأطفال ألقيت جثثهم في طرقات البلدة فهو تكرار وتأكيد لما جاء في البيان الرسمي الصادر عن جبهة نصرة الإسلام والمسلمين، وقد فهم منه أنه رمي بالكرة إلى ملعب الدواعش، لكن داعش هي الأخرى نفت المسؤولية عن تلك المجزرة نفياً قاطعاً بتعليل وجيز: “نحن لا نجيز قتل النساء والأطفال حتى في قتال المليشيات المرتدة” ورد هذا في صحيفة النبأ – العدد 292 تحت عنوان: “القاعدة تتهرّب من تبنّي عملياتها”.
لا هذا ولا ذاك، فمن نصدّق ؟
الصحفي المِهَني الخبير بالجماعات المسلحة “وسيم نصر” قال على قناة فرانس 24 تعقيباً على إنكار العنابي:
“إننا نعلم يقينا أنها كتائب تابعة للقاعدة”.
ما قاله وسيم قريب من الصحة ليس فقط بسبب الإنكار الرسمي لداعش بل لأنّ المجموعة المهاجمة ذات صلة بجماعة الموحدين وهي بالفعل معروفة بالتبعية للقاعدة، ثمّ إن المجزرة جاءت بعد أن صدر تهديد من العنابي نفسه يدعو فيه إلى قتال الصليبيين وأعوانهم المرتدين، فهو فعل مندرج تحت أمر وهو يشمل مليشيا الدفاع الذاتي في صولحان التي أسست لقتال الجهاديين من القاعدة وداعش، لكن ما لا يعلمه وسيم أن القاعدة قد فقدت بالفعل السيطرة على أتباعها في المثلث الحدودي الممتد من مالي إلى النيجر إلى بوركينا فاسو منذ موت المعلم إبراهيم ديكو وبروز الدواعش حيث وقعت هنالك فوضى فكرية عقائدية وانشقاقات وماجت الأرض بأهلها فتشتت الجماعات المسلحة وتفرّقت شَذَرَ مذَر. ومن الواضح من خلال المسارعة في الإنكار الرسمي أن تلك التصرفات غير ممنهجة ولم تأمر بها قيادات القاعدة، فهذا ما يمكن تصديقه لكن كان على القاعدة أن تبيّن للناس حقيقة تلك الجهة المارقة التي قامت بتلك الأعمال البشعة والمحرمة في الشريعة الإسلامية، إنّ مثل تلك الفلتات المخالفة لشرع الله قد تقع بل وقعت في العهد النبوي من أشخاص محسوبين على المسلمين فلم يتهرّب النبي صلى الله عليه وسلم من الفضيحة بإنكار نسبتهم إليه بل سارع في تصحيح الغلط والبراءة من الصنيع ورفع يديه فقال:
“اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”
قادة القاعدة وجبهة نصرة الإسلام هم أعلم الناس بالفصائل الجهادية في تلك الجهة، ومعلوم أن جماعة الموحدين لم تكن من الفصائل التي انشقت فالتحقت بداعش، فبيّنوا للناس ما تكون تلك المجموعة، هل هي مجموعة مارقة منشقة عن القاعدة؟ وإن كانت من داعش فهل هنالك دليل على ذلك وقد أنكرت بصفة رسمية؟ أم لمّا تزل من قاعدة أخطأت وقامت بأفعال غير ممنهجة ؟ أم تمّ اختراقها لتوريط القاعدة ؟ بيّنوا ذلك بالتفصيل وأبرئوا ذمتكم عند الله تعالى وعند الناس، لا نقول في العنابي: كذاب بل نقول هو مقصّر في الإقناع لأنّ مجرد الإنكار لا يدفع التهمة ولا يُجدي نفعاً، حين تحوم شبهة السوء بالمسلم وجب عليه درؤها بالبيان والتفصيل كما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من معتكفه في ظلمة الليل ومعه امرأة فمرّ رجلان من الأنصار فعرفا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “على رِسلكما إنها صفية بنتُ حيي” أي زوجه أم المؤمنين صفية فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: “إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئاً”
قال النووي شارح الحديث النبوي: “فيه فوائد منها استحباب التحرّز من التعرّض لسوء ظن الناس في الإنسان، وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة، وأنه متى فعل ما قد يُنكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن يُبيّن حالَه ليدفع ظنّ السوء”.
أما موضوع العلاقة بالطالبان والتنقيب عن سر عدم تهنئتهم والإكتفاء بتهنئة الشعب الأفغان، وجواب العنابي بأن الشعب الأفغاني والطالبان هما شيء واحد فليس فيه تناقض أو غرابة يا وسيم، والانشغال بمثل هذا مضيعة للوقت لأن هؤلاء يا وسيم متديّنون خشنون لا يلعبون، العنابي لم يزل مرتبطاً بالبيعة للقاعدة وأمير المؤمنين، يعني ما يصدر عن القيادة العليا للقاعدة يشمل العنابي فمن دونه، والقيادة العليا للقاعدة قد أصدرت بياناً رسمياً في أغسطس 2021 يبارك لأمير المؤمنين “هبة الله أخند زاده” والأمة الأفغانية انتصارهم بجلاء الأمريكان فلا حاجة لتصريحات مَنْ دون القيادة العليا، ولا يكذب العنابي إذا قال: لقد قمنا بتهنئة أمير المؤمنين.
وكذلك كلامه عن الخوارج وإعذار الرئيس مرسي بالتأويل هو تحصيل حاصل فذلك مذهب القاعدة قديماً وحديثاً لم يتبدّل من لا يعرف ذلك لا يعرف شيئاً عن الخلاف بين داعش والقاعدة مذ بدأ الاقتتال في سوريا.
لكن أعجب ما وقفت عليه من التحليلات لما ورد في تصريحات العنابي ما جاء في موقع “الخبر الآن” وغيره من القول بأن العنابي إنما يبحث لنفسه عن مخرج آمن من القاعدة، يعني لذلك يسعى للتركيز على دول الساحل جنوباً ويتجنب فرنسا والجزائر، وأنا شخصيّاً أتمنّى لو يتحرّر العنابي من عُقدة الارتباط بالقاعدة كما فعلت هيئة تحرير الشام لأنّ ذلك يفسح لهم مجالاً أكبر للمناورة والتطوير وتصحيح الأخطاء والتحرّر من جريرة القاعدة مع الحفاظ بالطبع على رابطة الإسلام، لا معنى للتمسّك بمسمّى القاعدة، انظروا إلى المكاسب التي حصلت عليها الطالبان بفك الارتباط، وقد تكلمت عن هذا مراراً في مقالات سابقة، نتمنّى ذلك لكنّنا لا نقوّل العنابي قولاً بالتمنّي.
أنتم في وادٍ والعنابي في واد
للتركيز على دول الساحل والصحراء حكاية تحتاج إلى توضيح لفهم أبعاده وأسراره.
فللحديث بقية