تكلّمنا في السابق عن منهج الإمام الشافعي – رحمه الله – في تجديد الفقه الإسلامي وكيف تحوّل من الفقه العراقي المعروف بالمذهب القديم إلى الفقه المصري المعروف بالمذهب الجديد، وبيّنتُ لكم ما المقصود بالجديد والتجديد، وذكرنا هنالك أنّ المراجعة الشافعية لم تقتصر على مسألة أو مسألتين بل كانت مراجعة شاملة لجميع أبواب الفقه حتى قال الإمام الماوردي عمدة فقهاء الشافعية:
“إنّ الشافعي غيّر جميعَ كُتبه القديمة في الجديد إلا الصَّداق فإنه ضرب على مواضع منه وزاد مواضع”اهـ
ومن هذا الوجه يمكننا القول بأن الشافعي هو أول من ابتدع التجديد المنهجي الشامل بناء على الواقع المصري الجديد، لكن الشافعي في الحقيقة هو مسبوق بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه الأول السابق إلى تحديث بعض المتفرّقات من أبواب الفقه الإسلامي في مصر الكنانة.
في مصر رخّص أمير المؤمنين عمر بتغيير قوانين الشريعة المتعلقة بتوقيت جباية الزكاة والجزية والخراج !
كان الشروع بجباية الأموال في جزيرة العرب يبدأ مع بداية السنة الهجرية، إذا أهل هلال محرّم فذاك حَوْل الحَول، ولم يكن في ذلك التوقيت السني الدائم ضررٌ على الناس لأنّ دورة التنمية الاقتصادية والفلاحية والحيوانية في جزيرة العرب كانت مستقرّة، وأصناف الأموال عندهم محدودة؛
بالذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والإبل والبقر والغنم ضأنها وماعزها.
تلك هي أصناف فريضة الزكاة التي ورد ذكرها بالنصوص السنة النبوية الصحيحة، وعليها بنى الظاهرية مذهبَهم الشاذ في منع الجباية من غير المنصوص عليه حرفيّاً، فقال ابن حزم الظاهري:” لا تجب الزكاة في شيء من الأموال غير هذه الأصناف الثمانية فقط” ولا يخفى على عاقل في زماننا ما فيه من منافاة للعقل ومقصود الشريعة الإسلامية…
وبالله عليك – أيها القارئ – تأمّل هذه المسألة الفقهية النموذجية بإنصاف وتجرّد.
ومحصّلها أنّ من كانت لديه ثروة هائلة من الألماس والياقوت والمرجان وآلاف آلاف من الريالات والدولارت ليس فيها صدقة ولا يجب عليه فيها شيء، فإنْ كان لديه 85 جراماً من الذهب وجبت عليه ضريبة الصدقة !
أيعقل هذا ؟
والمهم هنا أن تعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم لما فتحوا مصر فدخلوها آمنين وجدوا اختلافاً كبيراً في أصناف الأموال وصفة تدويرها وتنميتها على غير الدورة المعهودة في الانتاج المستقر لنخلة العرب وإبلها وغنمها وبقرها !! وتختلف كذلك عن المنتوجات الشامية واليمنية المستقرّة بالمواسم المطرية السنوية.
وينبغي أن تعلم كذلك أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما اطلع على أصناف المنتوجات المصرية أعجب بالصناعة والنسيج والطعام المصري فقال مقالته الشهيرة:
“مصر كثيرة الخير والطعام”
[ فتوح مصر لابن عبد الحكم 1/190]
وكتب إلى عمرو بن العاص:
“لا تدع بمصر شيئاً من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلّها إلا بعثتَ إلينا منه”
[فتوح مصر 1/193]
والأهم من ذلك أنْ تعلم أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أذِنَ بتغيير قوانين مواقيت الجباية فألغى العمل بقانون التحصيل دفعة واحدة في شهر واحد من العام وهي السنة المحمدية المعمول بها عند العرب كما قال شيخ الإمام مالك، ابنُ شهاب الزهري.
وأدهى من ذلك وأمَرُّ أنْ تعلم أنّ التبديل العُمَرِيّ في السنة المحمّدية جاء بناءً على مشورة من زعيم القبط النصارى!
حقيقة تاريخية مُرَّة على اللسان
تصكُّ الآذان
حلاوتُها في فكّ المعضلات وحلّ المشكلات
وزينتُها في فتح الآفاق لعلوم السياسة الشرعية
“فاعتبروا يا أولي الألباب”
للحديث بقية