للمعلّم حقٌّ محفوظ، ولمجالس العلم أدبٌ مَصون، وقد صنّف الخطيب البغدادي كتاباً ضخماً في بيان أدب العالم والمتعلّم سمّاه “الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع”.
إنّ كلامنا عن ضرورة إصلاح المنهج التربوي في التعليم الديني، وضرورة التأسيس لمنهج المراجعة بالمسألة والنقد والاعتراض لا يعني – قطُّ – الحطّ من قدر المعلّم أخطأ أم أصاب، وقد جاء في الأثر:
“ليس منّا من لم يُوقّر كبيرنا”
وما أعنيه أن المعلّم يجب عليه أن يُفسح المجال للمراجعة والنقد حتى يصير ذلك منهجاً في التعليم والتعلّم، حتى سيّدنا الخضر عليه السلام وهو النبي المعصوم ألزم سيّدنا موسى عليه السلام بالسكوت لأجل ولم يلزمه بالصمت المطبق فقال:
“لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً”
فلما جاء الأجلُ بَرَّد عليه بالجواب الشافي وقال:
“ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً”
إنَّ كبتَ الطالب بالصمت المطبق الدائم بغلق أبواب المراجعة، وإرغامه على الإيمان والتوقيع على المسموع دون نقد أو اعتراض حالة مرضية لا تنتج إلا الجهل أو التطرّف الديني ! مثلها كمَثَل المبتلى بسِرٍّ أليم مكبوت، لا ينفكّ عن التفكير به، ولا يقدر على البَوْح به، حتى يضيق صدرُه بالاكتئاب والقلق ثم يعتلّ عقله وتفكيره بمرض الفصام والاضطراب النفسي والميل عن الاعتدال إلى التطرّف، ولذلك نرى الطب النفسي يلجأ إلى حيلة الاستنطاق للتنفيس عن المعتوه المكبوت بالصمت.
فالمعلّم الرشيد هو الذي ينفّس عن الطالب بفتح أبواب التفكير السليم في جوٍّ صحيٍّ سليم حتى إذا عجز المُعلّم عن الإقناع أحاله إلى غيره من الراسخين، أو إلى المستوى الأعلى في التعليم فلا يغلق عليه باب الأمل والرغبة في المزيد، وإنْ كانت للطالب همّة عالية تفوق الأقران فمن الخسران المبين أن تُكبت هبة الله بالمغاليق.
دعوه يتغلغل في بحر العلوم، ويحلّق في سماء المعارف في جوٍّ صحيٍّ سليم كما حلّق الحافظ ابنُ الجوزي منذ الصبا، سلك مسلك السائل الباحث المحقق المدقق المنقّب المفتّش الناقد المعترض فملك اليد الطولى في الإبداع فصنّف في التفسير والحديث والتاريخ والحساب وعلم الفلك والنجوم وعلم الطبّ والفقه واللغة والنحو، وأعيى من بعده في إحصاء إبداعاته حتى قال الحافظ ابن كثير في ترجمته:
“له من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها وحصر أفرادها”
وهو القائل رحمه الله:
ما زلتُ أطلبُ ما غلا بل ما علا
وأكابد النهج العسير الأطوَلا
تجري بي الآمالُ في حلباته
جَرْيَ السعيد مدى ما أمّلا
أفضى بي التوفيقُ فيه إلى الذي
أعيا سوايَ توصّلاً وتغلغلا
لو كان هذا العلمُ شخصاً ناطقاً
فسألته هل زار مثلي قال لا
يروى عن المحدث الفقيه الإمام عبد الله بن وهب الفهري المصري صاحب مالك وراوي الموطأ عنه أنه قال:
“كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم، فوَلَعَ بِيَ الشيطانُ في ذكر عيسى بن مريم – عليه السلام – كيف خلقه الله عزّ وجلّ؟ ونحو هذا، فشكوتُ ذلك إلى شيخ فقال لي: ابنَ وهب !
قلتُ: نعم
قال: اطلب العلم
قال ابن وهب: فكان سببَ طلبي للعلم”
[جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر القرطبي 1/127]
جزا اللهُ ذلك الشيخ عن ابن وهبٍ وعن سائر المسلمين الذين انتفعوا بعلم ابن وهب خيرَ الجزاء.
عجز الشيخ عن الجواب الشافي لكنه نفّس الكربة عن شابٍّ يغلي قلبه كالمِرجل من الأسئلة الشيطانية فكسر له مغاليق الجهل والتخلّف، وفتح نافذة المحراب ليخرج من الظلمة إلى النور بحثاً عن الأجوبة الشافية فرحل وارتحل ولازم مالكاً في المدينة المنورة ثم عاد إلى مصر وقد ملئ علماً وإيماناً إلى مشاشته.
حتى الأسئلة الشيطانية لا تفضي إلى التطرّف إنْ نوقشت وعولجت في جوٍّ صحيّ وسليم ..
ولنا مع ابن وهب حكايات أخرى نذكرها لاحقاً إن شاء الله تعالى.