الثقافة الإسلامية مرّت بثلاث مراحل؛
– عصر النهضة والرقي، وكان ذلك في القرون الإسلامية الأولى.
– ثم عصر الجمود والتقليد خلال القرون الوسطى.
– ثم عصر الانحطاط والتقهقر .
ولكل عصر طفرات ووثبات وحالات استثنائية شاذة فاذّة لا تعكس الصورة العامة لذلك العصر.
في القرون الإسلامية الأولى كانت لمجالس العلم هيبة ومكانة عظيمة فلا يرأسها إلا النوابغ من أهل العلم لأنها كانت أشبه بحلبة المصارعة الفكرية، يُنتخب المُعلّم فيها كانتخاب الصنديد للخروج إلى المبارزة، لا يُقدّم إلا من كان أهلاً للمواجهة، لا يخشى السؤالات، ولا يجزع من الاعتراضات، فتتفتّق العقول وينتفع السائل والمسؤول، كما حدثتكم من قبلُ عن مجالس الشافعي ببغداد ومصر.
لكن – كما قلتُ آنفاً – لكل عصر حالات استثنائية كمدرسة “الكوفة” في القرن الثاني والثالث هنالك ابتلي المحدّثون ببليّة التدليس فاضطروا إلى “اسمع واسكت، واستر ما ستر الله” حتى قال يزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد:
“قدمتُ الكوفة فما رأيتُ أحداً إلا وهو يدلّس إلا مسعر بن كدام وشريكاً”
[ رواه الخطيب في الكفاية 1/361]
فلا تعجب من قول الحاكم النيسابوري في علوم الحديث:
“أكثر المحدّثين تدليساً أهل الكوفة”
[معرفة علوم الحديث 111]
لكنّ الفُطَناء المحققين من النوابغ النحارير لم تنطلِ عليهم حِيَلُ الشيوخ، فكانوا يعلمون أنّ المعلّم الذي يكره المراجعة لا يفعل ذلك إلا لأمرين إما لحيرة وعجزٍ عن المجاوبة أو لنَصْبَة وخبايا يكتمها عن تلاميذه، يستغفلهم بتدليسها فيمرّرها بإلهائهم أو اسكاتهم من قبيل “اسمع واسكت”.
من طرائف ما يُحكى في ذلك، قصة عجيبة عن إمام من أئمة السنة هو الإمام الحجة أبو محمد؛ سُفيان بن عُيَيْنَة الكوفي ثم المكي [ت198هـ]، وكان رحمه الله ثبتاً في الرواية لا يُشكّ في ثقته وعدالته لكنه لما قدم من الكوفة إلى مكة المكرمة حمل معه بليّةَ التدليس وشيئاً من أعراض ذلك المرض الكوفي، فجلس مرّة للتحديث فقال للطلبة:
“عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه مال لم يُبيّته ولم يُقيِّله”
فأوهم السامعين بعنعنته أنه قد أخذ الحديث النبوي مباشرة عن شيخه عمرو بن دينار، فتفطّن بعض الحاضرين فقال:
“يا أبا محمد؛ سَماعٌ من عمرو بن دينار”؟
[ يعني هل سمعته من عمرو بن دينار مباشرة أم بواسطة]
فقال سفيان بن عُيينة:
“دَعْهُ لا تُفسِدْهُ” !!!
فأعاد الرجل مسألته فقال:
“يا أبا محمد سماعٌ من عمرو بن دينار” ؟
قال سفيان : “وَيْحَكَ لا تُفسدْهُ، ابنُ جريج عن عمرو بن دينار” !!!
فقال الرجل: “يا أبا محمد؛ سماعٌ من ابن جُريج”؟
قال سفيان: “وَيْحَكَ كَمْ تفسدُه، الضحّاك بن مخلد أبو عاصم عن ابن جريج”.
فقال الرجل: “يا أبا محمد؛ سماعٌ من أبي عاصم”؟
قال سفيان: “وَيْحَكَ كم تفسدُه، حدثني عليُّ بن المديني عن الضحاك بن مخلد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار، ثم قال ابن عيينة: تلوموني على عليّ بن المديني لما أتعلّم منه أكثر مما يتعلّم منّي”.
[رواه الخطيب بإسناده في الكفاية وأبو موسى المديني في كتاب اللطائف من دقائق المعارف في علوم الحفاظ الأعارف ]
“صادوه” ! بمنهاج المراجعة
رضي الله عنه وغفر الله
لقد صدّع دعاةُ الإصلاح الإسلامي رؤوسنا بكثرة حديثهم عن الفساد الأخلاقي والفساد الإداري فليتهم انصرفوا قليلاً لإصلاح المنهاج التربوي الإسلامي قبل الانشغال بنكد السياسة.