قبل إغلاق ملفّ “لويا جيرغا” أفغانستان، أذكّركم مرة أخرى بما أوردته في المقدّمة عن اختلاف النُظم الاجتماعية في الأُمم البشرية، وما لذلك التنوّع من انعكاسات على النُظم السياسية المناسبة لإدارة شؤون الناس، وقبل إغلاق ملفّ جيرغا الأوس والخزرج أذكّركم كذلك بوصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبائل الأنصار رضوان الله عليهم.
منذ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من التأريخ الإسلامي إلى السنة الثامنة عام الفتح، كانت قبائل الأوس والخزرج هي السواد الأعظم والنواة الصلبة للدولة المحمدية، ولذلك كان إدارجُ النظام القبلي في إدارة نظام الدولة والحفاظ على أمنها واستقرارها من الحكمة السياسية، حتى أنزل الله تبارك وتعالى قوله :
” إذا جاء نصر الله والفتح
ورأيتَ الناسَ يدخلون في دين الله أفواجاً”
صدق الله العظيم، دخل الناس في دين الله أفواجاً حتى سُمّي العام التاسع بـ”عام الوفود” لكثرة الوفود التي قدمت إلى المدينة المنورة لإعلان الانضمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تمض سنوات قليلة حتى فُتحت العراق والشام وفارس وما وراءها شرقاً ومصر وتونس وما وراءها غرباً، فدخلت شعوب لا تُحصى في دين الله أفواجاً، فأصبح الناسُ أكثر عدداً من قبائل الأوس والخزرج بأضعاف مضاعفة ووقع الخلل في التركيبة الديمغرافية، وهو الذي تنبّأ به المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل موته إذ خرج صلى الله عليه وسلم في مرض موته من حجرته وعليه ملحفة متعطّفاً بها على منكبيه، وعليه عصابة دسماء، فجلس على المنبر فحمد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال :
“أما بعد أيها الناس، فإنّ الناس يكثرون، وتقلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن وَلِيَ منكم أمراً يضرُّ فيه أحداً أو ينفعه، فلْيَقبَلْ من مُحسِنِهم، ويتجاوز عن مُسيئهم”.
[صحيح البخاري]
لذلك اختلفت النُظم السياسية لإدارة شؤون الدُوَل الإسلامية في العصور الأولى، لاختلاف الحالة الاجتماعية والاقتصادية من مِصرٍ إلى آخر حتى مع وجود نظام الخليفة الواحد! كما حدث في العصر الأيوبي في الخلافة العباسية حين بعث السلطان صلاح الدين الأيوبي إخوانه وولاته ليحكموا الأمصار فحُكمَت الشام ومصر والحجاز بنُظُمٍ تختلف عن نظام الحكم في اليمن، والدولة واحدة، لأنّ القبائل في الشام ومصر هم فيها كالملح في الطعام.
وعند قيام الدُول الحديثة في بدايات القرن العشرين كان لذلك الاختلاف تأثير ظاهر على تنوّع النظم، فدولة مثل باكستان فيها عدد كبير من قبائل البشتو وغيرها، وفيها كذلك أُمم لا تُحصى عدداً وكثرة من شعوب البنجاب والسند والبلوش والهنود وغيرهم، فلا مجال لمقارنتها بأفغانستان حيثُ نسبة القبائل فيها تزيد على 98 % من قبائل البشتو والطاجيك والهزارة والبلوش والتركمان والأوزبك، وتزيد نسبة البشتو وحدهم على 60 % من مجمل الشعب الأفغاني، أكثرهم يعيشون باستقلال واكتفاء ذاتي في الشعاب والجبال وعلى ضفاف الأنهار والوديان خارج المدن، فهل يُعقل أن يُقام في تلك البلاد نظامُ دولةٍ مستقرّةٍ آمنةٍ دون الأخذ بالاعتبار تلك التركيبة الاجتماعية الخاصة؟ أيُعقل أن تقاس أفغانستان على الهند أو باكستان أو مصر؟
“مصر” فيها كذلك قبائل خالصة النسب في صعيد مصر والصحراء الغربية والنوبة وبدو سيناء، وفيها – سواهم – أضعافُ أضعافهم من الشعب المصري المقيم على ضفاف النيل منذ ألوف السنين، وهم أصهار أخلاط في القاهرة والاسكندرية وسائر المدن الكبرى وعلى ضفاف النيل وأرياف الدلتا فيهم ما يزيد على ستة مليون موظّف حكومي فمن غير المناسب أن يُحكم المصريّون على الطريقة الأفغانية، ومن غير المناسب أن يُحكم الأفغان على الطريقة المصرية أو الباكستانية أو الهندية، فافهموا يا أولي الألباب …
هذا شيء لا علاقة له بإسلام ولا بغيره، “اللويا جيرغا” كانت ولم تزل من تقاليد الأفغان منذ مئات السنين، وهي سُنّة محمودة بنصّ القرآن الكريم ولو كره الجاهلون، فكفّوا عن العبث بالأفغان ودعوهم يضبطوا أمنهم ويحفظوا سلمهم على النحو المناسب لطبيعتهم.