كانت “يثرب” المدينة المنورة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كسائر القرى العربية مبنيّة على النظام الاجتماعي القبلي، مقسمة ديمغرافيا بين قبائلها كما ورد في السُنن والصحاح، ولكل فرعٍ منها دورٌ سكنية [أو ما يُسمى في العصر الحديث بالأحياء السكنية] ومراعي ومزارع وشعاب خالصة لهم على النحو التالي؛ دارُ بني النجار، ودارُ بني عبد الأشهل، ودارُ بني الحارث بن الخزرج، ودار بني ساعدة وقس عليه.
وكانت قبائل “يثرب” تنحدر من فرعين “الأوس” و “الخزرج”، ولكل فرعٍ فروعٌ من العشائر والأفخاذ، فلما وقعت بينهم الفتنة الكبرى “يوم بُعاث” أصبح لكل فرع قبلي مجلس شورى خاص بهم – قبل إسلامهم – فإذا دهمهم أمرٌ اجتمعوا فتشاوروا وتحاوروا حتى يجتمعوا على كلمة واحدة فيصدر عنهم كفيل نائب كان يُسمى في اللسان العربي القديم “العريف” على وزن فعيل الذي يفيد الكثرة والاختصاص معناه الكفيل الضامن الذي يعرف جيّداً ما اجتمع عليه قومُه، ويُسمى كذلك “النقيب” مشتق من التنقيب أي العالم العارف بأسرار النفوس، المطّلع على خبايا النوايا من خلال مجالس الجيرغا.
ولم تكن تلك المجالس القبلية على رتبة واحدة بل رتب ترتقي بارتقاء النازلة، فيكون التصعيد بقدر الحَدَث، فيُدفع بالنقباء من الأدنى إلى الأعلى فالأعلى حتى يصل الأمر إلى المجلس الأعلى، وهو مطابق لما يعرف عند الأفغان بلغة البشتو “اللويا جيرغا ” أي المجلس الأعلى لزعماء القبائل، ولذلك كان بنو النجار يلقّبون نقيبهم الأعلى “نقيبَ النقباء” وهو سيدنا أسعد بن زرارة رضي الله عنه الذي شهد بيعة العقبتين فلما استشهد خلفه النبي صلى الله عليه وسلم فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عضواً في مجالس الجيرغا وواحداً من نقبائهم كما سيأتي توضيحه.
وقد ورد ذكر النقباء والعرفاء في نصوص كثيرة متفرّقة تصل إلى درجة التواتر، وروي عن التابعي الجليل ابن شهاب الزهري تسمية النقباء من الأوس والخزرج نقيباً نقيباً منهم أسعد بن زرارة نقيب بني النجار والبراء بن معرور نقيب بني سلمة، وأبو الهيثم بن تيهان نقيب بني عبد الأشهل، وسعد بن خيثمة نقيب بني عمرو بن عوف، وسعد بن عبادة نقيب بني ساعدة … إلخ ، رواه الفاكهي في أخبار مكة والبيهقي في الدلائل وابن حبان وغيرهم.
أولئك النقباء من الأوس والخزرج رضي الله عنهم هم الذين اجتمعوا وتشاوروا واتفقوا على التحوّل من الوثنية إلى الإسلام فصلّوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ثم اجتمعوا وتشاوروا واتفقوا على نجدة النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا به سرّاً ليلة العقبة الأولى ثمّ الثانية فبايعوه على النصرة وبها قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، وفي ذلك أنزل الله تبارك وتعالى قوله : “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم”.
وروى الطبري في تفسيره عن ابن زيد [ت 182هـ ] قال :
“وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ“ الأنصار، “وَأَقَامُوا الصَّلاة” وليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، “وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهم” ليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً” اهـ
والسؤال هنا:
ماذا الذي حدث للنظام الاجتماعي اليثربي بعد الهجرة النبوية ؟
وهل ألغى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظام الشورى القبلية ؟
الجواب باختصار: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى “يثرب” أصبحت المدينة المنورة دارَ هجرة المؤمنين فهاجر الناس إليها من كلّ حدَبٍ وصوب فتوطّنوا المدينة ونشأت فيها أمة بنمط اجتماعي جديد !
مجتمع قبلي قديم من الأوس والخزرج أضيف إليه خليط من المهاجرين المؤمنين وكانوا نزاعاً من القبائل والشعوب، من قريش وهذيل وخزاعة وغيرها من قبائل العرب ومن فارس والروم والحبشة والقبط وغيرها من الشعوب.
ومن ثَمَّ أصبح في الدولة الإسلامية الأولى نوعان من مجالس الشورى؛
– مجالس شورى عامة برئاسة أمير الدولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها أنزل الله تعالى قوله في سورة آل عمران : “وشاورهم في الأمر”.
– ومجالس شورى “الجيرغا” أو المجالس القبلية الخاصة بقبائل الأنصار التي كانت معروفة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنّ الإسلام لم يُلغ النظام القبلي القديم ولم يلغ مجالس الجيرغا القائمة على ذلك التكتّل القبلي، وسأذكر لكم بعض النصوص من صحاح السنن والمسانيد الدالة على ذلك.