لا يمكن الحكم على “لويه جرگه” أهي حلالٌ أم حلامٌ؟
أهي من الإسلام أو من الكفر؟ قبل التعرّف على حقيقتها، ما هي وما تكون؟ كما يقول الفقهاء: “الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره”.
الـ “جرگه” أو “جيرغا” أو مجالس الشورى القبليّة نظام معروف لدى قبائل البوشتو وجيرانهم منذ الماضي السحيق، وهي عندهم من العادات والتقاليد الأصيلة، يتوارثها الآباء عن الأجداد والأبناء عن الآباء، حتى أصبحت من أبرز خصائصهم الحميدة، ولتلك المجالس مهام متنوعة كالمصالحة وفضّ النزاعات الأهلية، ومواجهة الكوارث الطبيعية أو الطوارئ البشرية كإعلان الحرب، ومنها تقسيم المراعي وموارد المياه أو سنّ القوانين المتعلّقة بمصلحة القبيلة وغير ذلك من الشؤون العامة.
زعيم القبيلة هو أبٌ كبير لأُسرة كبيرة، مصيره من مصيرهم، ومصيرهم من مصيره، في مركب واحد، وإذا كبرت القبيلة تفرّقت إلى عشائر وأفخاذ ، لكل فرعٍ زعيم، وفوق كل ذي زعامة زعيمٌ حتى ينتهي الأمر إلى الزعيم الأعلى؛ شيخ المشايخ.
فإذا طرأت الطوارئ كانت رُتبة “الجيرغا” على قدر النازلة، تبدأ من الأدنى فتصعد إلى الأعلى، كلما عظم الطارئ حصل الارتقاء في رتبة مجلس الزعماء حتى يصل إلى المجلس الأعلى، فإن كانت القبائل تُدار بحكم الزعيم الأوحد المستبد، الذي يرأس قومَه بلا مشورة ولا مراجعة كانوا في الغالب معه مصيباً كان أم مخطئاً، على مبدأ “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”، هذا – للأسف – حال أغلب القبائل في العصور الغابرة قبل الإسلام، أمرهم معقود بالحظ، إن كان الزعيم المستبد حكيماً جاوَزَ بهم النازلة، وإن كان سفيهاً أوردهم المهلكة، وبئس الوِرْد المورود، كما قال الله سبحانه عن زعماء قريش:
” ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمة الله كُفراً وأحلّوا قومَهم دارَ البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار”
لكن في العهد القديم كان قلة أخرى من القبائل تعجبها مجالس المشورة وسجال المراجعة – قبل الإسلام وبعده – حتى وإن انتهى الأمر إلى سُراتهم وكبار زعمائهم من القبائل النادرة قبال البشتو!
زعماء البشتو لا يقضون بأمر مصيري عام حتى يراجعوا ويشاوروا ويحاوروا ويناظروا في مجلس أعلى يجمع كبار الزعماء والوجهاء والعقلاء يسمّونه “اللويا جيرغا”.
انتبهوا وأنصتوا جيّداً إلى ما أقول
مرّة أخرى أقول: كانت تلك السُنة الحسنة قبل الإسلام وبعده، وإن شئت قلت : في الجاهلية وفي الإسلام، لا عيبَ في ذلك، ومصطلح الجاهلية يُطلق على العصر الذي سبق عصر الإسلام ولا يعني بالضرورة أن كل ما سبق الإسلام باطل، ألا ترى أنّ العرب كانت في الجاهلية قبل الإسلام تحّرم نكاح الأم وتبيح نكاح امرأة الأب، الأول حسن أقرّه الإسلام، والثاني قبيح حرّمه الإسلام، فكذلك “اللويا جيرغا” هي من المحاسن التي أقرّها الإسلام وأثنى عليها.
تلك – وأيْمُ اللهِ – مَنْقَبة لا مثلبة، خصلة حميدة خصّ الله بها عدداً قليلاً من القبائل دون سائر الأُمم – قبل الإسلام وبعده – منها قبائل البشتو ومنها قبائل بني قيلة من الأوس والخزرج، لجأوا إلى مجالس اللويا جيرغا بعد أن قادهم الاستبدادُ إلى الفوضى والحرب الأهلية يوم بُعاث فكانت “الجيرغا” سبباً في قيام دولة الإسلام كما سيأتي تفصيله لاحقاً.
نظام “اللويا جيرغا” عند البشتو قديم جدّاً لا يُعرف على وجه القطع مِنْ مصدر تاريخي موثوق مكتوب متى تمّ ابتداعه والعمل به، فمن الناس من يقول كان ذلك في العهد الإسلامي زمن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين في القرن الإسلامي الرابع أي قبل أكثر من ألف عام، ومنهم من يقول: كان قبل ذلك، نشأ في عهد الملك كنيشكا أي في القرن الميلادي الثاني قبل الإسلام.
وفي الجملة مَنْ أراد التعمّق في فهم طبيعة هذا النظام القبلي فعليه أن يدرس الفوارق بين النُظُم الشعوبية والنُظُم القَبَلية ومراحل تطوّرها على مرّ التاريخ، وتفصيله يطول فسأكتفي بنبذة موجزة عن تلك الفوارق.
الأُمم الشعوبية تنصهر فيها القبائل والعشائر فتختلط فيها الأنساب في مكوّن جامع كبير، وعادة ما ينشأ النظام الشعوبي في المدن الكبرى والأمم العظيمة والمجامع الكثيرة التي تُدار بنظام الدولة كالصين والهند والروم وفارس ومصر ونحوها حيثُ تتكفّل الدولة بحفظ الحقوق ومصادر الرزق فلا يحتاج الأفراد إلى العَصَبَة والعشيرة فيسهل عليهم الانتشار والاختلاط والتفرّق في الناس لطلب الرزق.
وهذا الصنف الاجتماعي موجود قبل الإسلام، وكانت تلك الأمم تُحكم بنُظم مختلفة ومتنوّعة منها نظام الُحكم الفردي المستبد كما حكى القرآن الكريم عن فرعون مصر يُخاطب شعبه بقوله :
“ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”
ومنها نُظم تحكم بأصناف من الشورى أو الديمقراطية أو الحكم الجماعي ونحوها من النُظم السياسية المبتكرة مع تطوّر المجتمع الإنساني، كمجالس الديمقراطية التي نشأت في بلاد الإغريق قبل الإسلام أو ما حكاه القرآن الكريم عن ملكة سبأ إذ قالت لمجلس الأعيان :
“أفتوني في أمري، ما كنتُ قاطعة أمراً حتى تشهدون”
أما المجتمع القَبَلي الذي يعتمد في الأساس على رابطة النسب الصليب القريب فعادة ما كان ينشأ في المناطق الجبلية الوعرة أو القفار والصحارى أو الغابات ونحوها أو القرى الصغيرة المنقطعة حيث تكون الأًمم قليلة العمران قليلة العدد لا عاصمَ لها، فيتحصّنُ الأقربون بعضهم ببعض لتأمين الحياة والمطعم والمسكن، فينتج عن ذلك الانغلاق مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والنُظُم الإدارية الخاصة بذلك التكتّل المغلق يتوارثها الأبناء عن الآباء للحفاظ على قبيلتهم.
وبالطبع كانت للحروب والكوارث الطبيعة نصيب في إعادة تشكيل المجتمعات الإنسانية كما حدث لبني إسرائيل كان شعباً مطمئناً في مملكة مطمئنة فأغار عليهم بختنصر وجاس خلال ديارهم فمزّق شعبهم وفرّقهم في الأرض، وكما أخبرنا القرآن الكريم عن الاجتماع الكبير والخير الوفير الذي كانت تنعم به مملكة سبأ وشعبها قبل انهيار السدّ كما قال الله تبارك وتعالى:
“فأرسلنا عليهم سيلَ العَرِم – إلى قوله سبحانه – ومزّقناهم كلَّ مُمَزّق”
انهار السدّ فانهارت أركان المملكة السبئية وتلفت الجنان والمزارع فتفرّق شعبها شَذَر مَذَر لحق بنو قيلة بيثرب، وغسان بالشام، وخزاعة بتهامة، والأزد بعمان .. إلخ
إنّ نشأة الشعوب والقبائل شيءٌ متعلّق بتطوّر الطبيعة وتطوّر الاجتماع البشري، كان قبل الإسلام وبعده، قال الله تبارك وتعالى :
“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنّ الله عليم خبير”