هل تعلم أن المذهب الشافعي الذي يعتبر من أعظم المذاهب الفقهية الإسلامية قد بُنِيَتْ أركانه، وُدُوّنت أصوله وفروعه، ورُتّبت أبوابه وفصوله بالتمام والكمال في أربع أو خمس سنين فقط !
عجيبة من عجائب التاريخ الإسلامي المجيد !
كيف ذلك ؟
الجواب: جاء نصرُ الله والفتح بمرض الشافعي وكبوة المصريّين
فصدق الله العظيم
“عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم”
أصيب الشافعي بمرض دامٍ عُضال، فأحسّ بدنوّ أجله من شدّة المرض حين همّ بالرحيل من بغداد إلى مصر، حتى ظنّ أنها الرحلة الأخيرة فأنشد :
أرى دائماً نفسي تتوق إلى مصر
من دونها أرض المفازة والقَفْرِ
فواللهِ ما أدري أللفَوْزِ والغِنى
أساقُ إليها أم أساقُ إلى القبر
رواه الخطيب في تاريخ بغداد [ 2/70] وأبو القاسم في تاريخ جرجان [ ص 91 ] بالإسناد المتصل إلى الشافعي وأتبعه راوي الخبر بقوله :
“فواللهِ ما كان إلا بعد قليل حتى سيق إليهما جميهاً”اهـ
فلمّا نزل مصر كان لسانه حاله يقول كما قال سعيد بن جبير لأصحابه:
“يا معشر الشباب سلوني قبل أنْ لا تروني، فإني أوشكتُ أن أذهب من بين أظهركم”
هذا عن المرضة أما الغفلة فإنّ شباب مصر وشيوخها كانوا عند قدوم الشافعي حديثي عهدٍ بلدغة الفراق بعد أن عمّر الليث بن سعد قرين مالك بين أظهرهم حتى جاوز الثمانين، باذلاً نفسه لله، قريباً من الناس متواضعاً سخيّاً فانفلت منهم سنة 175 هـ .
قال عبد الله بن صالح كاتب الليث:
“صحبتُ الليثَ عشرين سنةً، لا يتغذّى ولا يتعشّى إلا مع الناس وكان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض”
أصاب الشافعي بقوله “ضيّعه أصحابه”.. !
الأصحاب شمّروا سواعدهم لملاحم الأستاذ وولائمه وضيّعوا علمه إلا شيئاً يسيراً مقتضباً مفرّقاً خداجاً غير تمام، ولربما محى كلامُ الليل كلامَ النهار كما يمحو كلامُ النهار كلامَ الليل، لأنّ الناس في الزمان الأول كان الرجل فيهم إذا أكل اللحمَ انتشر فلا ينقبض حتى يأتي أهله ويقضي وَطَرَه، فلما مات الليث أسفوا على فراقه وزادهم الشافعي حسرة وندامة على فقيدهم بقول:
“ما فاتني أحد فأسفتُ عليه ما أسفت على الليث”
[رواه الخطيب في تاريخ بغداد 2/300]
فهل أتعلمون ما حصل لمصر لما حطّت قافلة الشافعي بأوقارها من نفائس الكتب والمرويّات؟
نزل الشافعي مصر فأعلن المصريّون حالة الطوارئ القصوى، شُدّت المآزر، وأرخيت الستائر، ونُشت الدفاتر، وملئت المحابر، وشمّر المصريّون – هذه المرّة – عن ساعد الجدّ فنهضوا كما نهض أجدادهم بناة الأهرامات.
توافد طلاّب العلم وجاءت الأكابر من مشيخة مصر فزاحموا الأصاغر للجلوس بين يدي الشافعي، وكان في الحاضرين شابٌ من ذوي الهمم العالية يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً، يُقال له الربيع بن سليمان المرادي.
من هنا ستبدأ الحكاية والجهد المشترك في بناء صرح المذهب الشافعي …
ذلك الشاب المصري المؤذن المغمور كانت فيه سلامة وغفلة، لم يكن من وجهاء الناس ولم يكن من أساطين الفقه والعلم، حضر كغيره إلى مجلس الشافعي فامتاز عنهم بفرط النهم !
يا لطيف !
حضر الشاب جائعاً متعطّشاً إلى العلم، فلما رأى الشافعيَّ انقضّ عليه كما ينقضّ الوحش الضاري على فريسته، فالتصق به وقام على خدمته، والقلم بيده لا يفارقه ويكتب عنه ويدوّن، ويضبط النسخ ويُقابل ويصحح من غير مَلَل ولا كلل حتى قال له الشافعي :
” يا ربيع لو أمكنني أن أطعمك العلمَ لأطعمتك”
[وفيات الأعيان/طبقات الشافعية/سير أعلام النبلاء]
ما حكاية ذلك الشاب المغمور ؟
تابع لتعلم وتقتدي .