كلما ذكرنا فقه الأقليات اعترض علينا أهل الجهل والتعصّب بقولهم : لماذا أعرض السلف عن فقه الأقليات .. لا يوجد شيء اسمه فقه الأقليات! هذا فقه انهزامي، هذا إسلام أمريكاني … إلى غير ذلك من الألقاب التي تنفّر المبتدئين الشباب في المَهجر من تعلّم دينهم الحق على الوجه الصحيح، وقد ذكرتُ فيما مضى أنّ هنالك سببين لإعراض السلف الصالح عن كثرة الخوض في فقه الأقليات؛
الأول / لأنّ الله – جل وعلا – قد مَنَّ على المسلمين في القرون الأولى فوسّع بلادهم حتى بلغت حدود الصين شرقاً إلى بلاد المغرب الأقصى غرباً مروراً بالأرض التي وصفها الله تعالى بقوله : “باركنا فيها للعالمين” قال ابن جرير الطبري هي أرض الشام، فالأمن والخير والبركة والرزق كان ذلك كله في بلاد المسلمين وكان الحدود مفتوحة، ولذلك كانت الغربة في بلاد الكافرين حالة استثنائية نادرة كما حدث في الهجرة الأولى إلى الحبشة أو عمرة لقضية.
والثاني / لأنّ السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يكرهون الخوض في النوازل قبل وقوعها، وكانوا يرون أنّ الفقهاء الذين يُدركون عصر النازلة هم الأولى بتحمّل مسؤولية الاستنباط الفقهي لأنهم الأعلم بأحوالهم وما يُصلحهم عند نزولها، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سألوه بأن يعيّن لهم واحداً يستخلفونه فأجابهم : “وددتُ أني نجوت منها كفافا، لا لي ولا عليَّ، لا أتحملها حيّا وميتا” رواه البخاري.
وعليه فإن إعراض السلف الصالح عن الخوض في النوازل يعكس جانباً من جوانب العبقرية في الفكر الإسلامي لدى أئمة المسلمين كما قالوا :
لكل زمانٍ رجال
ولكل مجالٍ مقال
يتجلّى ذلك لمن تتبع التاريخ الإسلامي وتتطوّر الحضارة الإنسانية فالفقيه في القرون الإسلامية الأولى كان بالكاد يمكنه تصوّر المستقبل لما بعد الخمسين عاماً، ولم يكن أحد قادراً على تخيّل ما سيكون عليه الحال بعد ألف سنة أو ألفين أو ثلاثة إلا بنبوءة مأثورة أو كهانة مكذوبة ..
بالله عليكم؛ هل كان أحد من فقهاء السلف الصالح يتخيّل أن يعرج الإنسان في الفضاء فيسكن محطّة فضائية معلقة في السماء لا يتكوّر فيها الليل على النهار؟
ولذلك يا أخي كانت أكثر مسائل النوازل بالنسبة للسلف الصالح مجرّد طرائف هزلية يتندّرون بها للترفيه عن النفس، وإن صنّفت في هذا الفنّ الترفيهي كُتب معدودة كفتاوى النوازل للفقيه الحنفي أبي الليث السمرقندي المتوفى سنة 373 هـ، وسأذكر مثالاً من تلك المسائل العجيبة لتدركوا الحكمة من إعراض السلف الصالح عن مسائل النوازل.
جاء في بعض الكتب المعتبرة في الفقه الحنفي في حاشية “البحر الرائق شرح كنز الدقائق” مسألة في النوازل غريبة جداً تفرّعت عن الحديث عن تبعية الولد للأم وقياس ذلك على البهائم، وفيه قول الفقيه الرملي : “الشاة إذا نزا عليها كلب فولدت فإنه لا تجوز التضحية به عند عامة العلماء” فاستدرك عليه المحشّي فقال معقّباً :
قلت : “لكن في الوهبانية :
وإن يَنْزُ كلبٌ فوق عَنْزٍ فجاءها
نِتاجٌ له رأسُ الكلاب فينظَرُ
فإنْ أكلتْ لحماً فكلبٌ جميعها
وإنْ أكلتَ تِبناً فذا الرأس يُبتَرُ
ويُؤكل باقيها وإن أكَلَتْ لذا
وذا فاضربنها فالصياحُ يُخبِر
وإن أشكلت فاذبح فإن كرشها بدا
فعنز وإلا فهي كلبٌ فيُطمَرُ
قال شارحها الشرنبلالي : المسألة من الظهيرية: كلب نزا على عنز فولدت ولدا رأسُه رأسَ كلبٍ وباقيه يشبه العنز، قالوا يقدم إليه العلف واللحم، فإن تناول العلفَ دون اللحم ترمى رأسه بعد الذبح، ويؤكل ما سواها، وإن تناولهما جميعا يُضرب، فإنْ نَبَحَ لا يؤكل وإن ثغى [الثغاء صوت الشاة] ترمى رأسه ويؤكل غيرها، فإن ثغى ونَبَح ذُبِحَ فإنْ وُجِدَ له كرشٌ أُكِل ما سوى الرأس، وإن وجد له أمعاء لا يؤكل لأنه كلب”. انتهى
هل علمتم الآن لماذا أعرض أغلب السلف الصالح عن فقه النوازل ؟
وما الحكمة من تأخير النازلة حتى تكون فيكون لها رجالها ؟
بحثٌ واستدراك وتعقيب وجدل فقهي ونظم قصيد وإنصات لنوعية الصوت
وقال إيش : ننقّب في البطن عند تشابه الأصوات ثم لننظر إنْ كان له كرش عنز أم أمعاء كلب، والناس من خلفهم يترقّبون النتيجة النهائية لاتخاذ قرار أداء شعيرة الأضحية
أتاريه الهبل كان واصل مواصيله
وبقي لنا أن نسأل بعد الشبع من ابن الحرام الكلب ولد العنزة أو العنزة ابنة الكلب إن كانت خلوة أبيه بأمه جائزة أم حرام
واللي عنده عنز يجنبها الاختلاط والله يستر على حريمه
وبالآخر يعيبون علينا الكلام في فقه الأقليات