لم تُعن كتب الفقه الإسلامي في القرون الأولى بفقه الأقليّات، ولم يكن موضع سجال وتنازع بين المدارس الفقهية الكبرى، مما أثار الشكّ والريبة لدى بعض الجاهلين الحريصين على الاقتداء بمنهج السلف الصالح حذو القذّة بالقذّة.
إنّ إعراض السلف الصالح عن تناول هذا الفن من أصناف الفقه الإسلامي كان له ما يُبرّره وهو انعدام الحاجة إليه! وقد كانوا يكرهون الخوض في المسألة حتى تكون.
وكنتُ قد أشرتُ في مقال سابق إلى نبذة عن فقه الأقليات عند الحديث عن “خصال النجاشي”، لأنّ الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت باختيارٍ وإذنٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعلم أنّ المهاجرين هم قلّة من المسلمين تجاور أمة عظيمة من غير المسلمين تحت سلطان ملك غير مسلم، وقد أجمع المؤرخون على توثيق تلك الحادثة المتواترة ومع ذلك أعرض الفقهاء الأولون عن تناول فقه الأقليات لسببين:
الأول / لأنّ المهاجرين إلى الحبشة خرجوا من مكة في العهد المكي قديماً قبل نزول أغلب الشرائع والأحكام الإسلامية، ولذلك لم تكن للفقهاء حاجة إلى أخبار أهل الحبشة إلا في مسائل نادرة كالوكالة في النكاح.
الثاني / الهجرة إلى الحبشة كانت حالة استثنائية فريدة عابرة، فلما وقع التمكين ولّت إلى غير رجعة، فلم ينقضِ النصف الأول من القرن الإسلامي الأول حتى بلغ سلطان المسلمين مشارق الأرض ومغاربها كما قال الله – سبحانه وتعالى – :
“واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس، فآواكم، وأيّدكم بنصره، ورزقكم من الطيّبات لعلكم تشكرون”
في عهد السلف الصالح رضوان الله عليهم كانت الأقليّات من غير المسلمين هي التي تهاجر إلى بلاد المسلمين لطلب الأمان أو الرزق والمعاش، وهذا الصنف هو الذي اهتمّ به الفقهاء وأدرجوه في أبواب فقهيّة خاصة عُرفَت بأحكام أهل الذمّة.
أما الأقليّات المسلمة في البلاد الكافرة فحالاتها نادرة ومسائلها معدودة إذا ذُكرت أُدرجت تحت فِصَل النوازل لنُدرتها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عمّا لم يكن، وروي عن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الأمر قال :
أكان هذا ؟
فإن قالوا : نعم قد كان، حدّث فيه بالذي يعلم والذي يرى.
وإن قالوا : لم يكن .
قال :
“فذروه حتى يكون”
[سنن الدارمي]