انصاف الآخر – وإن كان على غير ملّتنا – أدبٌ أخلاقي تعلّمناه من القرآن الكريم .
بعض آيات القرآن فيها إطلاق وإجمال، وبعض الآيات فيها تفصيل وتفسير.
أنزل الله – سبحانه – في اليهود والنصارى :
“قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”.
وفصّلت آيات من القرآن الكريم مواضع الاعتراض على أهل الكتاب وما ابتدعوه من عقائد وشرائع تفصيلاً دقيقاً، وأنصف القرآن الكريم أهل الكتاب في مواضع فذكر ما لهم من محاسن، والناس معادن فيهم المُحسن الأمين وفيهم المسيء الخائن، كما قال سبحانه وتعالى :
“ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا”.
في القرن الإسلامي السادس سنة سبع وثمانين وخمسمائة دهمت جيوش الحملة الصليبية مدينة “عكا” من البحر على حين غَرّة وحوصر المسلمون وجيشهم فتحصّنوا بقلعة المدينة، ولم يتمكّن السلطان صلاح الدين الأيوبي – رضي الله عنه – من نجدتهم فسقطت عكا وكانت نكبةً عظيمة للأمة الإسلامية.
السلطان صلاح الدين في ذلك الزمن كان يحتفظ بتحفة أثرية لا تقدّر بثمن ، خشبة صليب الصلبوت ، أقدس أثر ديني عند النصارى، يعتقدون أنها الخشبة التي صلب عليها المسيح – عليه السلام – .
[لاحظ أن الكلام هنا عن النسخة الأصل وليست الكوبي … شيء خطير جداً].
وفي ذلك الزمان الغابر كان بصحبة السلطان صلاح الدين الأيوبي ثلة عظيمة القدر والجاه من أكابر العلماء والفقهاء وأمراء الأجناد فلم ينكر عليه أحدٌ منهم، ولو كانوا على دين الدواعش لسارعوا إلى إتلاف الخشبة وتحريقها دون اعتبار لمصالح أو مفاسد لأنها ترمز إلى عقيدة يكفر بها الدين الإسلامي، لكنّ السلطان الفاتح الذي فتح القدس فاحتفظ بالخشبة بعيداً عن ساحات المعارك أمر بحفظها في الخزائن المؤمّنة …
ولما أشرفت مدينة عكا على السقوط بعد محاصرتها خرج والي عكا إلى الغزاة ففاوضهم على تسليم المدينة وإطلاق من فيها من أسارى المسلمين مقابل تسليم خشبة الصليب وفدية مالية كبيرة [250000 دينار ذهبي] على أن تكون مدّة تحصيل المال وجمعه إلى شهرين، فوافقوا على الشرط وحلفوا له ، فسلّم إليهم المدينة وفتح لهم أبواب الحصن، فلمّا تملّكوها غدروا وخانوا العهد فاحتاطوا على من في الحصن من المسلمين فحبسوهم وأخذوا أموالهم ومتاعهم وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بُذِل لهم في الميثاق، وراسلوا صلاحَ الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم، وقد كانت خشبة الصليب – كما تقدّم – مؤمّنة محفوظة عند صلاح الدين …
هي بكل المقاييس حادثة تاريخية عظيمة ! وإن كانت نهايتها مؤلمة، إذ انتهت بمجزرة بشعة على الطريقة الداعشية ذبح فيها المئون من أسارى المسلمين.
أدعو العقلاء والمفكرين من المسلمين وغير المسلمين إلى تأمّل تلك الحادثة واستنباط ما فيها من العبر والدروس الإنسانية في سياسة العلاقات الخارجية.
الحادثة يرويها المؤرخون من الطرفين؛ الإسلامي والصليبي، والغرض هنا هو معرفة ما قيل في مجالسنا وما دوّنه المؤرخون منا معشر المسلمين …
أدعوكم إلى قراءة ما دوّنه مؤرخ الإسلام الإمام ابنُ الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ”، فذلك المؤرخ كان حاضراً شاهداً على العصر، لم يكن من عامّة الناس يقص الحكايات بالقيل والقال بل كان وزيراً وجيهاً من رجال السلطة والدولة، مقرّباً من السلطان صلاح الدين، وابن الأثير من أكابر المحدّثين والفقهاء في زمانه، فاقرؤوا ماذا كتب وتأمّلوا ما قيل في مجلس شورى المسلمين لمّا أحسّوا بغدر ملوك الصليبيين .
قال – رحمه الله – [ج 9/215] :
” فشرع [يعني صلاح الدين] في جمع المال وكان هو الأمان له ، إنما يخرج ما يحصل إليه من دخل البلاد أولاً بأوّل ، فلما اجتمع عنده مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم فأشاروا بأن لا يُرسل شيئاً حتى يعاود يستحلفهم على إطلاق أصحابه وأن يضمن “الداوية” ذلك لأنهم أهل دين يَرَوْنَ الوفاءَ ، فراسَلَهم صلاحُ الدين في ذلك.
فقال الداوية : “لا نحلف ولا نضمن، لأننا نخاف الغدر من عندنا“.
وقال ملوكهم : “إذا سلّمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا”
فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر فلم يرسل إليهم شيئاً … ” اهـــ
[إلى آخر ما ذكره من الحكاية التي انتهت بتسيير خشبة الصليب إلى دمشق لتحفظ في الخزائن بعيداً عن أرض المعركة].
قال الشاعر :
كلّ العداوة قد تُرجى مودّتها
إلا عداوة من عاداك في الديني
فهل تدري من يكون “الداوية” ؟
هم “فرسان الهيكل” أشدّ فصائل الحملات الصليبية عداوةً للإسلام والمسلمين…
“الداوية” فصيل صليبي عقائدي إيديولوجي، مآربه دينية وخصومته دينية في الظاهر والباطن!
أنصف السلطانُ صلاحُ الدين وكبارُ مستشاريه من أئمة المسلمين ورؤساءُ أركان الجيوش الإسلامية فرسانَ الهيكل ورتّبوا على ذلك الإنصاف إجراءات عملية كشفت صحةَ تشخيصهم وتمييزهم حين قالوا : إنهم أهل دين ووفاء، يعني لا يغدرون بعهدهم إذا عاهدوا، ولا يخيسون بقَسَمهم إذا حلفوا، وذلك من مكارم أخلاقهم ومحاسن دينهم.