توقّف علماء نجد والحجاز – رحمهم الله – في الحُكْم على البرقي [ التلغراف ] وتركهم الجزم بالإباحة أو التحريم لحاجتهم إلى الوقوف على حقيقة البرقي هو أغرب ما في الفتوى وإن كان من باب الورَع المحمود .
إذ ليس المستغرَب عدم معرفتهم بتلك الآلة الحديثة فالشيوخ جاءوا من أعماق الصحراء والبوادي وقد أفنوا حياتهم في تعلم القرآن الكريم والسنة النبوية ، بل المستغرَب هو الجهالة المطلقة بالمعارف الإنسانية الحديثة …
لا حلال ولا حرام !
يعني أن البرقي مصروف إلى دائرة المتشابهات حتى يثبت النقيض .
ويعني أن حكمه ما جاء في الحديث النبوي المتفق على صحته :
” إنّ الحلال بيِّن ، وإن الحرام بيِّن ، وبينهما أمور متشابهات ، لا يعلمهنَّ كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ” .
وهذا يعني أن ما أشاعه أصحاب الجهل المركّب عن البرقي وآلات الاتصال السلكية واللاسلكية واتهام عبد العزيز وعمّاله بتسخير الجنّ ألقى بظلال الشكّ على العلماء فأدخلهم في دائرة المتشابهات وإنْ عجزوا عن الوصول إلى دليل حِسّي يثبت تورّط عمّال البرقي في تسخير الجنّ وتقديمهم الذبائح والقرابين الشركية لغير الله .
الجهل البسيط خيرٌ من الجهل المركب لكن درَكَة الجهل البسيط لدى أولئك الأفاضل كانت عميقة جداً حتى عجزوا عن تخيّل ما جاز أن يكون في عُنصر الإمكان البشري من الصناعات الحديثة والمعارف الجديدة . ولو كانت لديهم معرفة بدائية سطحية بالعلوم الحديثة لقالوا بالإباحة …
كان عليهم أن يفتوا بالإباحة وإن لم يتوصّلوا إلى المعرفة الدقيقة للتركيبة التقنية التي تعمل بها آلة البرقي .
لا نطالب الفقهاء بالتعمّق في دراسة الفيزياء والهندسة الميكانيكية قبل الحكم على السيارة والشاحنة والطائرة …
ولا نطالبهم بدراسة الكيمياء وعلوم الطب والصيدلة قبل الحكم على لقاح الجدري …
ولا نطالبهم بدراسة علوم الجيولوجيا والبتروكيماويات للحكم على آلات استكشاف النفط الغائب في باطن الأرض دون تسخير للجِنّ التنقيب عن الكنوز .
لو كان لدى الفقهاء أقلّ قليل القليل من المعارف الإنسانية الحديثة لعلموا أن الأصل في تلك الابتكارات والصناعات الحديثة هو الإباحة ما لم يثبت النقيض .
تلك الآلات المصطنعة حديثاً في عصر الطفرة الصناعية يجب تحويلها فوراً إلى خانة المباح .
يجب صرفها عن خانة الحرام أو المتشابهات حتى يثبت النقيض ، لأنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ، وقد الله عزّ وجل قال في محكم التنزيل :
” خلق لكم ما في الأرض جميعاً “
وقال سبحانه :
” وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ”