اجتناب الانغماس في الدنيا واللهو عن الآخرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :
” أبشروا وأمّلوا ما يسرّكم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكنّي أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ” .
رواه ابن ماجة والترمذي وقال : حسن صحيح
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت نبوءته ، فُتحت أبواب الدنيا للمسلمين فبُسطت لهم بلاد الشام وما وراءها وبلاد العراق وما وراءها وبلاد فارس وما وراءها ، وبلاد مصر وما وراءها في بضع سنين حتى ملك الحُفاة العراة مشارقَ الأرض ومغاربها ببركة الإسلام ..
انغمس الناس في الجهاد والقتال ، ثم ابتلوا فانغمسوا في جباية الغنائم والجزية والخراج وتقسيم السبايا والذهب والفضة ، ثم ابتلوا فانغمسوا في الصراع السياسي على السلطة فاقتتل المسلمون فيما بينهم وكانت فتنة عظيمة كادت أن تُذهب بريح الإسلام ولكنّ الله سلّم ….
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قاد المسلمين في معركة القادسية فأبلى بلاءً حسناً وتسبّب في زوال امبراطورية فارس حتى جيء بتاج ملك ملوكهم ” كسرى ” وحُملت أساوره وكنوزه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقسمها بين المسلمين ..
سعد بن أبي وقاص أحد المبشّرين بالجنة ، من أكابر الأمة الإسلامية ، أحد الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب لخلافته ، غني عن التعريف ، مناقبه لا تعد ولا تُحصى …
لما انغمس الناس في الدنيا خرج سعد بن أبي وقاص في إبله إلى البراري والمراعي فراراً من فتن السياسة والدنيا فجاءه ابنه عمر بن سعد فلما رآه سعد قال : أعوذ بالله من شرّ هذا الراكب .
فنزل فقال لأبيه : أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم !
فضرب سعد في صدره [ يعني ضربة التنبيه التي شرحناها في مبحث ضرب الزوجة ] فقال : اسكتُ ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
” إنّ الله يُحبّ العبدَ التقيَّ [ النقيَّ ] الغنيَّ الخفيَّ ” .
وكان ذلك في عصر الخلافة الراشدة ، في زمن الصحابة رضوان الله عليهم خير القرون ، ثم جاء القرن الذي يلي ، فانغمس الناس في الدنيا والصراع السياسي أكثر فأكثر حتى قست القلوب فانتبه المصلحون من علماء السلف الصالح إلى خطورة الانغماس في الدنيا فشرعوا في تصنيف الكتب وجمع الروايات المسندة في الزهد والرقائق فكتب الإمام عبد الله بن المبارك كتاب الزهد والرقائق ، وكذلك فعل الأئمة رضي الله عنهم ؛ المعافى بن عمران الموصلي ، ومحمد بن فضيل الكوفي ، ووكيع بن الجراح وغيرهم ممن توفي في القرن الإسلامي الثاني ، وصنّف في هذا الفنّ من بعدهم ؛ أسد بن الفرات المعروف بأسد السنة ، والإمام أحمد بن حنبل ، وهناد بن السري ، وأحمد بن حرب ، وإبراهيم بن الجنيد وأبو داود السجستاني صاحب السنن ، وأبو بكر بن أبي الدنيا ، وأبو أحمد الأصبهاني وغيرهم من علماء القرن الثالث ، ثم الآجرى وابن شاهين والبيهقي وابن الصباغ والنسائي ابن صاحب السنن المشهور وغيرهم ممن توفي في القرن الرابع ، ومن تبعهم بإحسان على مرّ العصور والدهور .
وهؤلاء كانوا من أئمة السنة ومن أجلّة السلف الصالح رضوان الله عليهم ..
وانبثق ذلك الفنّ ما يُعرف بعلم التصوّف …