فلسلفة التصوف المضبوط بالكتاب والسنة تنبع من نصوص دينية أصيلة كقول الله تعالى :
” وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يُطعمون “
وقول الله تعالى :
” إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .. ” الآية .
وما في هذا المعنى من النصوص القرآنية والنبوية وهي كثيرة ، بل هنالك نصوص تدلّ على أن بعض الأعمال المدرجة في العبادات كالجهاد ما هي إلا وسيلة لغاية أجل وأعلى كما في الحديث الصحيح :
” ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم [ أي عند الله عزّ وجلّ ] ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورِق ، وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ” ؟
قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟
قال : ” ذكرُ الله عزّ وجلّ ” .
رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم .
في المقابل ؛ لا يخفى على اللبيب أن هنالك نصوصاً أخرى تحفظ التوازن والوسطية بين الدينا والآخرة وهي كثيرة جداً ومنها ما رواه مسلم في الصحيح عن حنظلة الأسيدي – وكان من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: لقيني أبو بكر فقال :كيف أنت يا حنظلة ؟
قلت: نافق حنظلة !
قال: سبحان الله ، ما تقول ؟
قلت: نكون عند رسول الله صلى عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأْيَ عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً .
قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا .
فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : نافق حنظلة يا رسول الله !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ذاك ؟
قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك
عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
والذي نفسي بيده ؛ لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرُشكم، وفي طُرُقكم، ولكن يا حنظلة :
ساعة وساعة
ساعة وساعة
ساعة وساعة
” ثلاث مرّات ” أي يكررها ثلاث مرّات ، انتهى الحديث .
والمعنى جلي لا يحتاج إلى تفسير .
وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ” كنتُ وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الأمر وغيره ، وإذا نزل فعل مثله ” .
ولذلك كان عمر بن الخطاب إذا فاته شيء من السنة النبوية يقول : ” شغلني الصفق بالأسواق ” أي ألهاني البيع والشراء عن حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ” إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ، وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم عَمَلُ أموالهم [ أي الفلاحة كإصلاح النخيل ونحوه ] ، وكنتُ امرأً مسكيناً ألزمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني ، فأحضُرُ حين يغيبون ، وأعي ما ينسون ” .
وهذا يفسّر سبب إكثاره من الرواية ، فأبو هريرة كان صعلوكاً من صعاليك المسلمين والصعلوك في اللغة الأولى : من لا مال له ولا أهل يأوي إليهم .