أثبت العلم الحديث أن الدماغ يتكوّن من أجزاء منها المخ ومنها المُخيخ بالإضافة إلى النخاع الشوكي ، كما أثبت العلم الحديث أن لكلّ من تلك الأعضاء وظائف دماغيّة ، بعضها مكلّف بأنشطة وحركات إرادية وبعضها مكلّف بحركات غير إرادية ، وفي المحصّلة الدماغ عنصر أساسي في الأعضاء المسؤولة عن الفكر والنظر والإرادة وهذا الكشف العلمي لا يعارض – البتة – شيئاً مما جاء في القرآن الكريم .
لأنّ العلم الحديث أثبت كذلك أن الدماغ أي العضو المسؤول عن الفكر والنظر والإرادة مشبّك بمجموعة من الأعضاء الحيويّة ، معقود بعضها ببعض لا يمكن للدماغ أن يعمل بعقل سليم في انفصام عنها ، وأثبت العلم الحديث أن اختلال التوازن في العقود المعقّدة بين تلك الأعضاء قد يؤدي إلى تلف الدماغ أو اختلالٍ في التفكير والإرادة السليمة ، وبعض الأعضاء التي تقوم بحركات لا إرادية قد يكون لها تأثّر على الأعضاء الدماغية المسؤولة عن الفكر والنظر واتخاذ القرارات الإرادية .
هذه الحقائق لا تخفى على أهل الاختصاص في علم الأدمغة من الجانبَيِْن ؛ الفيزيولوجي والسيكولوجي ، لكننا سنضرب مثلاً ميسّراً فهمه للعامة غير مختصّين في هذا المجال :
إنسان آمن هادئ قد غلبه النعاس تعرّض بشكل مفاجئ لخطر كبير يثير الفزع أو تعرّض لما يثير غضبه .
كيف تجري الأمور ؟
أولاً : ترفع آلات الحواس كالسمع والبصر واللمس النبأَ المفاجئ المثير إلى أجزاء دماغية مخصصة لاستقبال المعلومات ، ثمّ في أجزاء من الثانية يقوم الدماغ مع مجموعة من الأعضاء الحيوية بسلسلة من التفاعلات المعقّدة ، كتغيير نِسَب الإفرازات الكيمياوية في الدماغ ، وتقوم بعض الغدد بإنتاج هرمون الأدرينالين فيتفاعل معه القلب فوراً فتزداد عدد ضربات القلب فيزيد ضخ الدم مقدار نسبة الإثارة فتهيج الدورة الدموية وتتوسّع الشرايين ويزيد تدفّق الدم إلى أجزاء أخرى من الدماغ تنشط في التفاعل مع العامل المؤثر وتزداد كفاءة العضلات والحواس كالسمع والبصر ، وقد تؤديّ تلك التغيّرات إلى التعامل مع الأمر المثير بشكل أفضل ، وقد تغلب بعض أجزاء الدماغ على بعض ، فيفقد الإنسان القدرة على التفكير السليم أو اتخاذ القرارات الإرادية السليمة وذلك حين يفرط في الخوف أو الغضب .
كما جاء في صحيح البخاري عن سليمان بن صرد قال كنتُ جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبّان فأحدهما احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه [ والأوداج عروق العُنق والرأس ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
“إنّي لأعلم كلمةً لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد”
فقالوا له إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوّذ بالله من الشيطان ، فقال : وهل بي جنون ؟؟؟ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :” اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها له زكاةً وأجراً ” .
ولذلك نلاحظ أحياناً في البرامج الترفيهية المعروفة بالكاميرا الخفيّة أنّ الشخص قد يُثار فيستشيط غضباً فتنتفخ أوداجه وتحمرّ عيناه فيشرع في السبّ والضرب ثم تكشف له الحقيقة ويُخبر بالحيلة والمكيدة الترفيهية فلا يستجيب على الفور وكأنما أصيب بحالة من الجنون المؤقت حتى يهدأ شيئاً فشيئاً ويبرد قلبه ، وهو المراد بما ورد في سنن أبي داود من حديث أبي ذر مرفوعاً :
” إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ” .
أحياناً قد يغضب الإنسان غضباً محدوداً فيحكم السيطرة على العقل السليم فإذا أفرط في الخوف أو الغضب فقد القدرة على التفكير السليم ، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن سيّدنا موسى عليه السلام وما أصابه حين خاف خوفاً محدوداً فخرج من المدينة يترقب فكان من أمره ما أخبر إلى أن قال له شعيب عليهما السلام : ” لا تخف نجوت من القوم الظالمين ” .
وأخبرنا القرآن الكريم عمّا أصاب سيّدنا موسى لما رأى الحبال تهتز كأنها جان فولى مدبراً ولم يعقّب !وأخبر الله تعالى موسى عمّا فعل قومه من بعده إذ عبدوا العجل فغضب غضباً محدوداً فحمل الألواح فلما أفرط في الغضب لما رأى بعينه فعل فعلاً آخر كما جاء في مسند الإمام أحمد وصححه الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ليس الخبرُ كالمعاينة ، إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومَه في العجل فلم يلق الألواح ، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت ” ، وفي ذلك يقول الله عز وجل : ” فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه – إلى قوله سبحانه – ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح ” .
ولذلك قال الفقهاء إن القاضي إذا طرأ عليه ما يفسد العقل السليم وجب عليه أن يتوقّف عن الحكم واستدلوا بما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” لا يقضينّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان “ .