قال الله تعالى :
“ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون ”
[ الأعراف / 170]
وقال الله سبحانه :
” أفلا يتدبّرو ن القرآن أم على قلوب أقفالها ”
[ محمد : 24 ]
اختلف الفقهاء والأطبّاء في محل العقل أهو الدماغ أم القلب ؟
الفقهاء يقولون : العقل في القلب وليس في الدماغ منه شيء .
والأطبّاء يقولون : بل العقل في الدماغ وليس في القلب منه شيء .
المعارف الحديثة تميل إلى رأي الأطباء ، فقد أثبت الاكتشاف العلمي الحديث بما لا شكّ فيه أنّ خلايا الدماغ هي المسؤولة عن تخزين المعلومات وتحليلها وتفسيرها وهذا في المحصّلة يعني : أنّ العقل محلّه الدماغ وليس في القلب منه شيء .
لكن بعض الفقهاء بالغوا في رد ذلك حتى قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – في تفسيره : ” هذا قول لا يتجرّأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو إن كان كذلك فليس بمسلم”.
ومن الغريب أنّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله المعروف باتباع النصوص والتقيّد بظاهرها ذهب هو الآخر مذهب الأطباء فقال : إن العقل في الدماغ ؟
ولم يُرو عن الإمام أحمد تفصيل التأويل المتعلّق بالآيات التي يناقض ظاهرها مذهب الأطبّاء .
الإمام ابن تيمية الحنبلي – رحمه الله – معروف بالدفاع عن إمامه وقد احتج له في تأويل الآيات القرآنية بقوله [ ما معناه ] : ” يحتمل أن يكون المقصود بالقلب باطن الإنسان مطلقاً فإنّ قلب الشيء باطنه ومنه سمّي القليب [ أي البئر ] قليباً وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلّق بدماغه أيضاً ، ولهذا قيل إن العقل في الدماغ ونُقل ذلك عن الإمام أحمد ” اهـ .
يعني أن الدماغ من القلب لأنه في جوف الإنسان ، وهذا مخرج معقول مقبول لغوياً يجمع به بين الأقوال ويصلح للردّ على الملاحدة ، لكن يعكّر عليه قول الله تعالى :
” أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ”
[ الحج / 46 ]
والدماغ كما هو معلوم محله الرأس وليس الصدر باتفاق العقلاء ، فالكلام هنا عن القلب الذي في الصدر أي العضو الذي يضخّ الدم في العروق .
وسلك بعض الحنابلة مسلكاً آخر لتوجيه مذهب إمامهم فقالوا : ” إن أصل العقل في القلب ، فإذا كمُل انتهى إلى الدماغ ” .
وهذا عند الأطباء غير مقنع …
ثم حاول ابن تيمية التوفيق بين آراء الحنابلة فقال : ” والتحقيق أنّ الروح التي هي النفس لها تعلّق بهذا وهذا ، وما يتصف من العقل به يتعلّق بهذا وهذا ، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ ، ومبدأ الإرادة في القلب . والعقل يراد به العلم ويراد به العمل ، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة ، وأصل الإرادة في القلب ، والمريد لا يكون مريداً إلا بعد تصوّر المراد ، فلا بدّ أن يكون القلب متصوّراً ، فيكون منه هذا وهذا ، ويبتدئ ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة إلى الدماغ فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء ، وكلا القولين له وجه صحيح وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق والله أعلم ” انتهى كلامه .
كاد ابن تيمية أن يلامس الصواب فلم يُسعفه الإيجاز ، وكلامه كذلك بالنسبة للأطبّاء غير مقنع لأنهم يقولون : إن الدماغ هو محل الفكر والنظر وهو محلّ الإرادة .
وتصدّى للأطبّاء والملاحدة بعضُ فقهاء العهد الحديث ممن عُني بالإعجاز القرآني كالدكتور زغلول النجار – حفظه الله – فزعم أنّ العلم الحديث بعد أن نجح في نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر أثبت صحة القرآن الكريم وإعجازه لأن العلماء لاحظوا أنّ الشخص الذي تجرى له عملية زرع قلب يفقد جزءاً من ذاكرته ؟؟ وأنه يكتسب جزءاً من مشاعر وعواطف وذاكرة صاحب القلب المنقول ، وزعم زغلول أنّ العلماء قالوا :
قد نقل قلب شاعر لرجل كان لا يُحسن الشعر ولا يعرفه فأصبح شاعراً ؟؟؟
ونُقل قلب موسيقار مشهور إلى شخص لا يعرف شيئاً عن الموسيقى فصار يعزف الموسيقى ؟؟؟
ونقل قلب إنسان قُتل غيلة ولم يُعرف قاتله إلى شخص لا صلة له بالقتيل فرأى القاتل في منامه فأبلغ الشرطة عن صفته فتمكّنت الشرطة من القبض على الجاني ؟؟؟
[ يمكنك مشاهدة كلام الدكتور زغلول على شبكة اليوتيوب بعنوان : الإعجاز العلمي للقرآن في القلب ]
والملاحدة أجابوا عن ذلك بقولهم : ما ذكره الدكتور زغلول فضيحة مجلجلة وليس إعجازاً ، واتخذوا من ذلك مطيّة للطعن على الإسلام فقالوا : إن تلك العقيدة الخرافية اقتبسها رسول الإسلام من معارف الجاهلية في العصور السحيقة ، وقد كان الفراعنة يعتقدون ذلك ولذلك كانوا يستأصلون الدماغ من جمجمة الرأس عند التحنيط ويبقون على القلب في جوف المُحنّط …
أما أنا فأقول : إنّ الآيات الكريمة التي تتكلم عن القلوب فيها إعجاز وحكمة بالغة لا تناقض الاكتشافات الحديثة لكن الدكتور زغلول – مع علوّ كعبه في علم الإعجاز القرآني – لم يُحسن تأويل الآيات ، ولم يهتد إلى الكشف عن موضع الإعجاز ، ثمّ لم يُفلح في إثبات صحة الشواهد التي نقلها عن مجاهيل العلماء ، فما كان لعالمٍ في مقامه أن يستشهد بالقيل والقال ، وإن كان ما حكاه عن الشاعر والموسيقار والقتيل مثيراً للدهشة والعجب لكن تلك الحكايات تصلح للسرد في المقاهي والمتحلّقين على قارعة الطريق ، ولا تصلح للاحتجاج العلمي إلا بدليل قاطع موثوق يدلّ على صحة التجربة . الموضوع – كما ترى – ممتع ، يحتاج إلى جواب مقنع ومزيد من التحقيق ، فتابع معي ..