أمر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بحرق المصاحف ، فأصدر قانوناً باهض التكلفة كان سبباً لقيام أوّل ثورة شعبية على السلطة الحاكمة في التاريخ الإسلامية انتهت باستباحة دم الخليفة المبشّر بالجنّة ، في مدينة رسول الله ، وهو يتلو كتابَ الله !
قتلوه وهم يقولون : كيف يفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ؟
ثم استفاق الناس ، وسكت الغوغاء ، وأجمع العقلاء على تصويب صنيع عثمان بعد فوات الأوان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . إنها حادثة خطيرة تحتاج إلى وقفة للتأمّل والتدبّر وشيء من التفصيل والتفسير .
نزل القرآن الكريم أوّل ما نزل على حرف واحد بلسان قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث فيهم وقد قال الله تعالى : ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم ” [ إبراهيم : 4 ]
ثم سأل رسول الله ربَّه التخفيف بإنزال القرآن على أكثر من حرف لأنّ العرب كانت لديهم لغات متنوعة وكانوا أمّة أميّة فنزل القرآن بلسان قريش والعرب ، على أكثر من حرف كما في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال : إنّ النبي كان عند أضاة بني غفار ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إنّ الله يأمرك أن تُقرئ أمتك على حرف ، فقال : أسأل اللهَ مُعافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك ، ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين … – إلى قوله – : ” إنّ الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآنَ على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا ” .
وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : سمعتُ هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها ، وكدتُ أن أعجل عليه ، ثم أمهلتُه حتى انصرف ، ثم لبّبتُه بردائه فجئتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقلتُ : إني سمعتُ هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرتنيها ، فقال لي : أرسله ، ثم قال له : اقرأ ، فقرأ فقال : هكذا أُنزلت ، ثم قال لي : اقرأ ، فقرأتُ ، فقال : هكذا أنزلت ، إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسّر ” . اهـ
وقد رُوي في معنى هذا أحاديث كثيرة متواترة المعنى ، وفي قصة لابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ” فانطلقنا وكل رجل منّا يقرأ حروفاً لا يقرأها صاحبُه ” .
فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّق أصحابه في الأمصار وهم على ذلك فأخذ الناس منهم ، كل مصر يقرأ بقراءة رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة وقتل سالم مولى حذيفة ، وكان ممن حفظ القرآن كاملاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبو بكر الصديق بجمع القرآن كاملاً في صحف حفظها تحت سقف واحد لضمان عدم ضياع القرآن بموت القرّاء ، وكانت الصحف محفوظة عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهم جميعاً كما تقدم ، وتلك كانت المرحلة الأولى من التطوير .
فلما جاءت السنة الثانية أو الثالثة من خلافة عثمان أي بعد خمس عشرة سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم اتسعت رقعة الدولة الإسلامية فكان كلّ أُفق من أمصار المسلمين يقرأ بقراءة من حلّ به من الأصحاب القرّاء رضي الله عنهم ، فوقع ما رواه البخاري وغيره عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان :
يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة
قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى !
فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحُف إلى حفصة وأرسل إلى كل أُفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرَق ” .
وروى ابن أبي داود في المصاحف عن أبي قلابة قال : لما كان في خلافة عثمان جعل المعلّم يعلّم قراءة الرجل ، والمعلّم يعلّم قراءة الرجل [ يعني القرّاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كابن مسعود وأبي بن كعب ] فجعل الغلمان يتلقّون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين ، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان ، فقام خطيباً ، فقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ، فمن نأى عني من الأمصار أشدّ اختلافاً وأشدّ لَحناً ، فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماماً ” .
وزاد في رواية أخرى : ” فلما فرغ من الصحف كتب إلى أهل الأمصار : إني قد صنعتُ كذا وصنعتُ كذا ، ومحوتُ ما عندي فامحوا ما عندكم ” .
وقوله : فاكتبوا للناس إماماً أي مصحفاً قدوة لمصاحف الأمصار والبلاد ، يرجع الناس إليه ، ينسخون منه مصاحفهم ولا يختلفون عليه ، ولذلك سمّيت المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الأمصار بالمصحف الإمام ، فالإمام صفة المصحف وليست نسبة إلى الإمام عثمان .
ما فعله عثمان يختلف عن صنيع أبي بكر رضي الله عنهما ، والقانون السلطاني الذي أصدره أمير المؤمنين عثمان إذ أمر بمحو وحرق كل صحيفة أو مصحف ، ثم إعادة نسخ المصاحف عن المصحف الإمام يختلف عن الأمر الذي صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : اقرأوا ما تيسّر منه ، قال الراوي : ” فانطلقنا وكل رجل منّا يقرأ حروفاً لا يقرأها صاحبُه ” .
النبي صلى الله عليه وسلم بالحفاظ على الحرف المسموع وتلاوته .
وعثمان رضي الله عنه أمر بموحه وحرقه .
هذا يعني أنّ هنالك تطويراً وتجديداً للقوانين الصادرة عن الإمارة الإسلامية وإن كانت تتعلّق بأقدس المقدّسات عند المسلمين فكيف يُنكَر التجديد فيما دون ذلك ؟
فلما جاء عهد التابعين واختلط العجم بالعرب والعرب بالعجم فسد اللسان العربي الفصيح وكثر اللحن ودخل في العربية ما ليس منها ، فأصبح الناس لا يحسنون قراءة المصحف الإمام لأنه كان مكتوباً برسم بدائي غير مشكول ولا منقوط .
فسمع أبو الأسود الدؤلي وكان من أهل الإمارة والوزارة من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه قارئاً يقرأ قول الله تعالى : ” إنّ اللهَ بريء من المشركين ورسوله ” بكسر لام رسوله ففزع أبو الأسود رضي الله عنه وقال : ” ما ظننتُ أمر الناس قد صار إلى هذا ” .
ثم ابتدع أبو الأسود منظومة جديدة لضبط القرآن الكريم فدعا كاتبه وأملى عليه القرآن معرباً باللفظ الفصيح وقال له :
” إذا رأيتني قد فتحتُ فمي بالحرف فانقط نقطةً أعلاه ، وإذا رأيتني قد ضممتُ فمي فانقط نقطةً بين يدي الحرف ، وإن كسرتُ فانقط نقطة تحت الحرف ، فإذا أتبعتُ شيئاً من ذلك غُنّة فاجعل مكان النقطة نقطتين ” . [ سير أعلام النبلاء 5/115 ]
كان ذلك في أوساط القرن الإسلامي الأول ، وهو أول نقط في الكتابة العربية ويسمى نقط أبي الأسود ، وهو كما ترى تطوير بدائي .
ثم أدخلت تعديلات أخرى في الضبط والنظم والتحزيب على يد نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر بأمر من الحجاج بن يوسف .
وطوّر الخليل بن أحمد [ صاحب العروض ] نظماً جديداً في تنقيط الكتابة العربية في القرن الإسلامي الثاني فتميّزت الحروف المتشابهة في الرسم .
واستمرّت من بعدهم حركة التطوير والتجديد فأحدثت رموز الفصل والوصل ، ورموز الشكل والمدود ونحوها .
واجتمعت الأمة الإسلامية على قراءة مضبوطة متقنة متواترة محفوظة ، إذا نسي الإمام فأخطأ بحرف واحد منها بادر صبيان المسلمين قبل آبائهم بتقويمه وتذكيره باللفظ الصحيح المتقن ، ولله الحمد والمنّة .