جاء في مغازي ” موسى بن عقبة ” [ وهو أول من صنّف في المغازي النبوية وكان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه يثني على كتابه ويوصي به ويجيب إذا سئل عن المغازي بقوله : ” عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي ” ]
وفيها : أن أبا بصير لما سَلَب القتيل من كفار قريس جاء بالسَّلَب [ أي ما غنمه من القتيل ] فقال : خمِّس يا رسولَ الله !
فقال : إني إذا خمّسته لم أوفِ لهم بالذي عاهدتهم عليه ، ولكن شأنك بسَلَب صاحبك واذهبْ به حيثُ شئت !
فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا معه من المسلمين من مكة حتى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش [ يعني إذا قصدوا الشام للتجارة ] مما يلي سِيف البحر [ أي ساحل البحر وهي منطقة قريبة من مدينة ينبع حالياً ] لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكباً أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة المشركين ، وفيه كذلك أن أبا بصير كان يؤم أصحابه ويصلي بهم وكان يكثر أن يقول :
الحمد لله العلي الأكبرُ من ينصر اللهَ فسوف يُنصَرُ
فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمّهم ، وفيه أنه قد اجتمع إلى أبي جندل ناس من بني غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير [ وهؤلاء من غير قريش ، لم يكونوا من المستضعفين بمكة بل كانوا من الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى الدولة النبوية ]
حتى كتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوم إلى المدينة ، أي بعد تنازل قريش عن شرطها وذكر موسى بن عقبة في روايته عن الزهري أن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى أبي جندل وأبو بصير يموت ، فمات رضي الله عنه وكتابُ رسول الله بيده يقرأه ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وصلى عليه ، وجعل عند قبره مسجداً .
واللفظ الأخير هو الذي ضبطه البيهقي في دلائل النبوة ومن طريقه ابن عساكر بالرواية المسندة عن موسى بن عقبة عن الزهري ، وبعضهم يذكره بلفظ ” فبنى على قبره مسجداً ” . مما أثار ثورة الخلاف بين فقهاء زماننا فانشغلوا بطرف الرواية عن جوهرها !
في الحديث من الفوائد ما لا يُعد ولا يُحصى ومنها جواز تعدّد الإمامة الدينية والسياسية ، ويُستفاد منه جواز تعدّد الخلافة في زمن واحد عند الضرورة كبُعد الأمصار أو عند اختلاف الشعوب على الأمراء وافتراق الأُمم الإسلامية وتعذّر الجمع والوفاق والتفاهم ونحو ذلك . ولم يكن جائزاً لأبي بصير أن يشق عصا المسلمين أو يفرّق جماعتهم في الدولة النبوية ، وأمرهم جميع على رجل واحد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه ” .
ما كان جائزاً لأبي بصير أنْ يُنبت نابتة في الدولة النبوية فينشئ إمارة دينية سياسية أو عصابة جهادية مارقة يشق بها الأمة وأمرها جميع كما يفعل الخوارج قديماً وحديثاً .
انتبهوا إلى الفارق …
الدولة النبوية كان لها حدود سياسية وعصا المسلمين كان لها حدود إلى بعض المسلمين دون بعض ، [ والعصا في الاصطلاح الشرعي كناية عن السلطة والإمارة ] وكانت في بقعة من الأرض محدودة جغرافياً ، وجماعة المسلمين في حدود تلك الدولة كانت أمة واحدة ، أمرها جميع على رجل واحد هو أمير المؤمنين المنتمين إلى دولته ، أما أبو بصير فلم يكن منتمياً إلى تلك الدولة ، ولا أقام معسكره في حدودها الجغرافية فلم يشق عصا الدولة النبوية ، وأمير تلك الدولة الإسلامية صلى الله عليه وسلم هو من حلَّ عقد الصلة السياسية بينهما .
لم يكن بين المسلمين المقيمين في المدينة المنورة مع رئيس دولتها من جهة ، وبين المسلمين المقيمين على سفوح جبل العيص مع أبي بصير وأبي جندل من جهة أخرى ؛ تباغض أو تدابر ، كانوا عبادَ الله إخوانا ولكل من الفريقين إمارة سياسية وقرارات سياسية مختلفة .