لا يستخف بـ”الجيرغا” إلا جاهل بقبائل الأنصار ومكانة الأنصار وفضل الأنصار في تثبيت أركان الدولة المحمدية.
“الجيرغا” كانت عنصراً أساسياً للحفاظ على لُحمة الأنصار من الأوس والخزرج، كانت وسيلة فعّالة لتوحيد كلمة القبيلة بإقرار واحد جامع لا يُختلف عليه في السرّاء والضرّاء.
كانت بمثابة كلمة السرّ للحفاظ على الأمن والاستقرار حين كانت تعصف بالدولة النبوية الحديثة عواصف عاتية من الفتن والمؤامرات الداخلية والخارجية.
من أمثال ذلك ما وقع في السنة الثالثة من الهجرة النبوية عقب غزوة بدر، وفيها نقض اليهودي كعبُ بن الأشرف “ميثاقَ المَدَنية المنوّرة” فحالف قريشاً على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم همّ بقتل النبي صلى الله عليه وسلم غدراً في مؤامرة ورد ذكرها في القرآن الكريم، كما ذكرتُ لكم سابقاً. فلما نجّا اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم من المكيدة والفخّ، فعاد إلى أصحابه سالماً قال صلى الله عليه وسلم في مجلس شورى عام:
“من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسولَه “؟
فقال محمد بن مسلمة : أنا، يا رسول الله أتحبُّ أنْ أقتله؟
قال: نعم
هكذا رواه البخاري في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله مختصراً بالمعنى، لأنّ القصة رويت وجه آخر عن محمد بن مسلمة صاحب القصة فقال :
“أقرّ صامت” !
يعني أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يلفظ كلمة “نعم” بحروفها، لكنه دلّ على معناها بصمته وإقراره، وكذلك رواه عروة ابن الزبير رضي الله عنه في المغازي قال:
“فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم”
فلماذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب: لأنه أراد إحالة الأمر من المجلس العام إلى المجلس القبلي الخاص “الجيرغا”.
ولماذا يُحال إلى المجلس القبلي الخاص وقد علم الناس في المجلس العام بغدرة كعب بن الأشرف؟
الجواب: للحفاظ على الأمن والاستقرار
أتعلم لماذا؟
لأن صاحب الغدرة؛ كعب بن الأشرف اليهودي كان حليفَ بني النضير، ويهود بني النضير حلفاء قبيلة الأوس، وقد كان “حضير الكتائب” الحارثي الأشهلي هو رئيس الأوس قبل الإسلام فلما قُتل “يوم بُعاث” خلفه “أًسَيْد” نقيب بني الأشهل وانتقلت الرئاسة إلى “سعد بن معاذ الحارثي الأشهلي” لصغر سنّ “أسيد”، فكان من الحكمة النبوية للحفاظ على الأمن والاستقرار إحالة الموضوع من المجلس العام إلى المجلس القبلي الخاص برئاسة رئيس القبيلة، ولذلك صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في رواية عروة بن الزبير رضي الله عنه وزاد فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة الحارثي الأشهلي:
“إن كنتَ فاعلاً فلا تعجل حتى تشاور سعدَ بنَ معاذ ، قال فشاوَرَه”
ويشهد له ما رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين [3/492] من وجه آخر عن أبي عبس الحارثي الأشهلي رضي الله عنه قال في روايته:
” فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ائت سعد بن معاذ فاستشره…”
ثم ذكر بقية القصة وفيها أن سعد بن معاذ الحارثي الأشهلي كلّف مجموعة للقيام بالمهمّة ليلاً وسرّاً سمّاهم الراوي واحداً واحداً، كلهم من الأوس من بني عبد الأشهل ومنهم أبو عبس رواي الحديث.
فللحديث بقية