في مطلع الثمانينات من القرن الماضي استنصر الأفغان إخوانهم المسلمين لنجدتهم في صدّ العدوان الشيوعي، ورفع الأفغان راية الجهاد الإسلامي لتحرير بلادهم فكان الإقبال لنجدتهم من خارج أفغانستان في أول الأمر ضعيفاً ومحدوداً حتى دخل الدكتور عبد الله عزام – رحمه الله – على خط المشاركة بالنفس والنفيس ولم يكن الشيخ مجرد فقيه حائز على درجة الدكتوراه في أصول الفقه الإسلامي بل كان عبقرياً موهوباً بخصال الزعامة وحُسن الإدارة العامة فكتب فتواه الشهيرة بعنوان “الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان” وعرض تلك الفتوى على كبار علماء المسلمين في موسم الحج سنة 1404 / 1984 فأجمعوا على قبولها وباركها الشيخ ابن باز – رحمه الله – فكانت العلامة الفارقة وعلى أركانها تشكّلت حركة الجهاد العالمي الإسلامي، ولا نبالغ إذا قلنا إن تلك الفتوى كانت أعظم فتوى جهادية ذات تأثير عالمي عابر للحدود والقارات منذ قرون طويلة، إذ يكن تأثيرها يقتصر على الأفراد بل امتد إلى الحركات والمنظمات حيث قامت عامة الحركات الإسلامية بإعادة جدولة أجندتها ومشاريعها بما يوافق مضمون الفتوى، ولم تكن فتوى عزام كسائر الفتاوى الدينية التقليدية ولم تكن محليّة لقُطر من أقطار العالم الإسلامي بل تضمت توجيهات حركية استراتيجية فهي تخاطب المسلمين في جميع أقطار الدنيا، وقد قسم الدكتور قضايا الصراع التي تستوجب النفير للجهاد إلى قسمين؛ قضايا مركزية جوهرية يجب التركيز عليها حاليا “لأن في حلها حلا لكثير من القضايا في المنطقة الإسلامية كلها وحمايتها حماية للمنطقة كلها” – كما قال – وهي فلسطين وأفغانستان، وقضايا غير مركزية يمكن تأجيلها مثل الجهاد لتحرير كشمير وتركستان وغيرها. ثم تكلم عن فلسطين وأفغانستان فكتب فصلاً مستقلاً بعنوان “البدء بأفغانستان” وقال :
“من استطاع من العرب أن يجاهد في فلسطين فعليه أن يبدأ بها، ومن لم يستطع فعليه أن يذهب إلى أفغانستان، وأما بقية المسلمين فإني أرى أن يبدأوا جهادهم في أفغانستان، إننا نرى البدأ بأفغانستان قبل فلسطين لا لأن أفغانستان أهم من فلسطين، بل فلسطين هي قضية الإسلام الأولى وقلب العالم الإسلامي وهي الأرض المباركة، ولكن هناك أسباب تجعل البدء بأفغانستان قبل فلسطين أولى”.
ثم سرد الشيخ أسباب ترجيح البدء بأفغانستان، فلعل القارئ يدرك الآن لماذا قلنا إنها لم تكن مجرد فتوى دينية تقليدية بل كانت فتوى حركة استراتيجية دينية سياسية، وهذه الفتوى كتبت قبل تأسيس حماس وقبل أن يكون للفلسطينيين راية جهادية إسلامية بارزة والشيخ عبد الله عزام هو الذي طالب الفلسطينيين في الداخل بتأسيس راية جهادية إسلامية والذين يلمزون حركة الجهاد العالمي ويعيبون عليها ترك الجهاد لتحرير فلسطين لم يفهموا خطة عزام ولا استراتيجية ابن لادن، ولا يعلمون أن منظمة القاعدة تأسست في الأصل على فتوى عبد الله عزام عند هزيمة السوفييت للقيام بمهمة مرحلة ما بعد أفغانستان، ولا يعلمون أن الشيخ عبد الله كان يطوف على قادة المجاهدين الأفغان واحداً واحداً ليأخذ منهم المواثيق وعهد الله لينصرن فلسطين بعد تحرير أفغانستان.
“فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا”.