تبيّن مما تقدّم أن الدماغ الإنساني لا يعمل كالأدمغة الآلية الجامدة كالحاسوب وأجهزة الكمبيوتر ونحوها بل هو مخلوق من صنع الله مشبّكٌ بروح منفوسة ، وما أدراك ما الروح ، معقودٌ بعواطف وعروق وخلايا عصبية وغُدد ومجموعة من الأعضاء الحيوية ومنها القلب كما أثبت العلم الحديث ، والله عز وجل يقول : ” وما أوتيتم من العلم إلا قليلا “….وما زال شعراء الغزل قديماً وحديثاً يذكرون القلب ودروه في فضح العقل الباطني للإنسان ونظموا في ذلك أشعاراً كثيرة فمن القديم قول الأخطل :
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما …. جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً
ومن الحديث قول الشاعر اليمني يتغزّل بمحبوبته :
بيني وبينك كلام ما كان حد يدريه … لكنّ قلبي وشى بي وافتضح أمري
وهذه النظرية العلمية كانت معروفة منذ العصور السحيقة قبل الإسلام وبعده لكن ورودها في القرآن الكريم ثبّت دعائمها كعقيدة من عقائد الإسلام فترسّخت في الأدب العربي منذ العصور الإسلامية الأولى .
ومن عجائب ما تم اكتشافه في العهد الحديث بناء على تلك النظرية قيام المخترع الشهير John Augustus Larson بابتكار آلة كشف الكذب Poygraph سنة 1921، وقد كشف ذلك الاختراع المذهل عن حقيقة تؤيّد النص القرآني المُعجز لأنّ الجهاز أثبت أنّ الخلايا الدماغية المسؤولة عن الأوامر الإرادية ليس لها سلطان على القلب إنما سلطانها على اللسان والجوارح ، وتبيّن أن القلب خير وسيلة لفضح العقل الباطني ومعرفة ما يفكر الإنسان به في أعماق الدماغ وإنْ كفّ لسانه عن النطق به .
فهل يوجد وراء ذلك أسرار أخرى عن القلب .. الله أعلم ، ربما بلغ العلم الحديث إلى كشف المزيد من أسرار القلب ووظائفه ، لكن على المنصف – سواء كان مؤمناً بالقرآن أم كافراً به – أن يقرّ بأنّ القرآن الكريم لا يعارض البحث والتنقيب العلمي المجرّد في هذا المجال بل يدعو إليه بقوله سبحانه ” وفي أنفسكم أفلا تبصرون ” ، بل نقول زيادة على ما تقدّم : إنّ القرآن الكريم تنبّأ في بعض آياته بتطوّر الاكتشافات العلمية في هذا المجال وأبعد منه كما في قوله سبحانه :
” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق “
وعلى إخواننا المسلمين المتخصّصين في مجال الإعجاز القرآني أن يعلموا كذلك أنّ الحقائق العلمية المتعلّقة بعلوم الطبيعة تحتاج إلى إثبات علمي دقيق وموثوق بعيداً عن الدجل والكهانة ، والكشف العلمي الذي ذكره الدكتور زغلول النجار – مع إقرارنا بعلوّ كعبه في هذا المجال – جميل ولطيف لكنه يحتاج إلى برهان قطعي لإثبات صحته ، وتقصير الفقيه الدكتور المجتهد في إثبات مزاعمه لا يضرّ بالخبر القرآني ، لأنّ القدر المعلوم المُحقق من المعارف العلمية القديمة والحديثة لا ينافي ما ورد في القرآن الكريم .
وبذلك تعلم خيبة الملاحدة الذين اتخذوا من تقصير النجّار في إثبات شواهده مطيّةً للغمز والطعن على القرآن الكريم ، ولو كان هؤلاء المتهافتون الجهلة على دراية بالمنطق العربي واللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم لعلموا أنه لا تناقض بين ما جاء في القرآن الكريم وما وصلت إليه المعارف الإنسانية الحديثة ، لأنّ المنطق العربي المبين يجيز إطلاق اسم الكلّ على الجزء ، واسم الجزء على الكل للدلالة على أهميّة الجزء المُسمّى .
فمثال الأوّل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الحجُّ عرفة ” ، والحج كما هو معلوم فيه مناسك متنوعة وأركان أخرى بإجماع المسلمين فالطواف بالبيت من الحج ، والسعي بين الصفا والمروة من الحج ، ورمي الجمرات والمبيت بمزدلفة من الحج ، والوقوف بعرفة جزء من أركان الكلّ يزول الكل بزواله ولذلك قال رسول الله : ” الحجُّ عرفة ” لئلا يُهمل ذلك الركن الأساسي فيفسد حجّ كلُّه .
ومثال اطلاق اسم الجزء على الكل قوله تعالى : ” ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ” أي تحرير عبد مؤمن أو أمة مؤمنة ، ولما جرت العادة في العهد القديم أن يقيّد العبيد الرقيق من الرقاب أُطلق اسم الجزء على الكل ، فقوله ” تحرير رقبة ” أي تحرير عبد ، وإن كان العبد مقيّداً من يده أو رجله وليس من رقبته كالعادة القديمة ، لا يختلف المسلمون في تفسير هذا المعنى .
والحاصل من هذا التحقيق المليح أن قول الله تعالى : ” لهم قلوب لا يفقهون بها ” لا يعني بالضرورة أن محلّ العقل ومبدأه ومنتهاه هو القلب وحده ليس غيرُ .