ضرب التأديب درجات ، أدناها ضرب التنبيه وأعلاها ضرب التعذيب والتثريب .
فضرب التنبيه عبارة عن ضربة صورية رمزية من غير إهانة ولا ضرر يقصد منها تنبيه الكريم وزجره عن الخطأ …
وهذا الصنف كان معروفاً عند العرب وكان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فمن ذلك ما رواه مسلم في الصحيح عن أبي بن كعب قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلي ، فقرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت : إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه ، فأمرهما النبي – صلى الله عليه وسلم – فقرآ ، فحسن النبي – صلى الله عليه وسلم – شأنهما ، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية ، فلما رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – ما قد غشيني ، ضرب في صدري ففضتُ عرقاً ، وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقا ، فقال لي : يا أبي أرسل إليّ أنْ اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلى الثالثة اقرأه على سبعة أحرف ” .
هذه الضربة من النبي صلى الله عليه وسلم ليست للتعذيب أو الضرر أو الإهانة بل هي ضربة التنبيه ، ليذهب عنه وسواس الشيطان ، وقوله : ففضت عرقاً لا علاقة له بقوة الضربة بل من شدة الانتباه واليقظة بعد الغفلة والوسواس .
واللهز على موضع القلب له معنى لا يخفى على اللبيب .
ومثله ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ليلتها رُوَيْداً رُويداً ، فظنّت أنه ذاهب إلى بعض نسائه فانطلقت في إثره ، فإذا به صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى البقيع يدعو لأصحابه فلما انقلب إلى بيته سبقته وأسرعت فاضطجت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة وهي راوية القصة :
فقال : ” ما لك يا عائشة حَشياً رابية [ أي ما لك متوترة منفوخة الصدر من شدّة نبضات القلب ] ؟
قالت : لا !
قال : لتُخبرنّي أو ليُخبرنّي اللطيف الخبير .
قالت : يا رسول الله بأبي أنتَ وأمي فأخبرته الخبر ،
قال : فأنتِ السواد الذي رأيتُ أمامي ، قالت نعم ، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ، ثم قال : أظننتِ أن يحيف الله عليكِ ورسوله .. ”
وذكرت بقية الحديث وما دار بينهما من حوار هادئ ، مما يدل على أن الضربة لم يكن أثر البتة ، والوجع اليسير إنما كان بسبب توترها وهيجان قلبها حين انقلبت تجري مسرعة إلى فراشها .
الحديث رواه مسلم في الصحيح وفي صحيح ابن حبان بلفظ : ” فلهزني لهزةً ” .
فبهذا يفسّر ما ورد في القرآن الكريم من الرخصة في ضرب النساء .
واللهز هو الضرب بمجمع الكفّ على الصدر ، ضربة خفيفة على الصدر للتنبيه . حركة تأديبية معهودة للتنبيه والزجر لا تؤذي ولا تضر وليست فيها إهانة أو احتقار تكون بين المحب وحبيبه والصاحب وصاحبه . ربما كانت في الرفث بين المحب وحبيبته قبل الجماع .
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه في النساء فقال :
” لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ” .
وروي بلفظ : ” جلد العبد والأمة ” وروي بلفظ ” جلد البعير أو العبد ” .
فإن قلت : عن أي رحمة تتكلم إن كان الإسلام قد أباح جلد العبد والأمة .
فالجواب : نعم هذا كان معروفاً عند العرب لكن الإسلام حرّمه ، فقوله ” ضرب العبد أو الأمة ” أي ذلك الضرب المعهود لديكم ، وقد نصوص كثيرة في تحريم ذلك حتى قال الإمام ابن حزم في المحلى : ” من لطم خد عبده أو خد أمته بباطن كفه فهما حران ساعتئذ إذا كان اللاطم بالغا مميزاً ” . واحتج بأحاديث منها ما رواه مسلم في الصحيح عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال : كنتُ أضرب غلاماً لي بالسوط ، فسمعتُ صوتاً من خلفي :
” اعلم أبا مسعود “
فلم أفهم الصوت من الغضب ، فلما دنا مني إذا هو رسول الله ، فإذا هو يقول : اعلم أبا مسعود ، اعلم أبا مسعود .
قال : فألقيتُ السوط من يدي .
فقال : اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام .
فقلت : هو حر لوجه الله .
فقال : أما لو لم تفعل للفحتك النار .
فقلتُ : لا أضرب مملوكاً بعده أبداً .