لا يشعر بمرارة الظلم إلا من وقع عليه وظُلم، ولذلك احتاج الفرنسيون لسنين وسنين حتى يستوعبوا حجم الجرائم الفظيعة التي كان يرتكبها الإقطاعيّون وطغاة محاكم التفتيش باسم المسيح عليه السلام .
لم يشعروا بشيء من الألم والوجع الذي أحرق المسلمين في الأندلس حتى اكتوا هم بنار الظلم، فانفجرت الثورة الفرنسية ورفعت شعار: “الحرية والعدالة والمساواة”، لكن الأساويد المستعبدون هنالك خلقوا لأرباب الثورة حالة من الانفصام الأخلاقي والوخز الضميري فاضطروا إلى إلغاء نظام العبودية في فرنسا ومستعمراتها بقانون ملزم سنة 1794م.
إلى ها هنا لا اعتراض .. سُنّة التطوّر التدريجي
لكن فرنسا الإمبريالية الاستعمارية لما صوّبت عينها ومطامعها على إفريقيا انطلقت جيوشها الغازية تحت شعار الحرية والعدالة والمساواة لتبرير غزو بلاد الأساويد بحجة تحريرهم من ظلم نظام الرق.
صدّق أو لا تصدّق
ومع ذلك يمكن القول : قد كان تحركاً معقولاً ومقبولاً والله أعلم بنوايا الفتح الإمبريالي .. لكن أتدري ما الذي حصل ؟
لم تمض بضع سنوات على إصدار قانون حظر تجارة العبيد حتى اكتشف الفرنسيّون أن نمو اقتصاد مدنهم الزاهرة كان بفضل تجارة العبيد، وأن قصور القرن السابع عشر التي لا تضاهيها قصور في الجمال والإبداع الفنّي إنما كانت ثمرة عائدات تجارة العبيد والاستحواذ على أسواق الجملة العالمية حيث كانت فرنسا تصدر عبيد أفريقيا إلى أمريكا وأسواق الجملة في جزر الكاريبي، ولذلك انتكست فرنسا بعد ثمان سنين فقط من تاريخ القانون الأول وارتدّت عن مبادئها وعدالتها فأصدرت قانوناً جديداً يجيز تجارة الرق في المستعمرات الفرنسية لِما وراء البحار.
يعني تجارة العبيد داخل فرنسا حرام لكن تجارة العبيد التي تمارسها الشركات والجيوش الفرنسية ما وراء البحار حلال ! وجلب عائدتها وأرباحها إلى فرنسا حلال ! تلك شريعة البطل الأسطوري نابليون.
يعني: لا عين شافت ولا قلب وجع !
هذا باختصار جوهر الأزمة الإفريقية الفرنسية، فدولة النيجر التي قامت فرنسا باحتلالها وضمّها إلى مستعمراتها سنة 1904 بحجة إنهاء الرق كما قامت بتعزيز وجودها العسكري فيها خلال السنوات الأخيرة بحجة مكافحة الإرهاب بقيت منذ مطلع القرن العشرين تعاني تحت إبط فرنسا من الفقر والجوع والعطش والتخلّف والظلمة وندرة الكهرباء ونتن رائحة الإبط الفرنسي وهي تمتلك أضخم مناجم اليورانيوم في العالم، ومع ذلك فنسبة تمتع ساكنة النيجر بضوء الكهرباء المستورد من نيجيريا لا تتجاوز 10 % ونسبة عائدات النيجر من أرباح تجارة اليورانيوم المستخرج من أرضها لا يتجاوز 10 % والباقي في جيب فرنسا ولشعب فرنسا، الذي يتمتع في الضفة العليا للبحر المتوسط بنعمة الكهرباء بنسبة 100 % وقس على ذلك سائر المنتوجات الخام من ذَهَبٍ وغيره.
ومن عجائب التاريخ أن رجل فرنسا “الرئيس الشرعي” للنيجر هاماني ديوري لما قام سنة 1974 بمجرد محاولة دبلوماسية خجولة ومؤدبة للمطالبة بحصة عادلة من عائدات اليورانيوم – لا أكثر ولا أقل – تمّ خلعه فوراً بانقلاب عسكري ومباركة فرنسية.
فين الحرية وفين العدالة وفين المساواة وفين الديمقراطية؟
والمصيبة ها هنا أنّ فرنسا لديها مناجم يورانيوم داخل الحدود الفرنسية لكن الشعب الفرنسي المتشبع بالوعي الصحي ومبادئ الثورة الفرنسية طالب بإغلاقها لأنها تضر بالصحة والبيئة فأغلقت بقوة القانون والحق.
صدّق أو لا تصدّق !!
والمصيبة كذلك أن فرنسا تستورد بقية احتياجاتها من اليورانيوم من أوزبكستان وكندا لكن بأضعاف ثمن استيراده من النيجر … تلك قِسمة ضيزى .. الحمار لا يرضى أن تكون حصته من البرسيم أقل حصّة صاحبيه.
صدّق أو لا تصدّق
والفضيحة أن وصفة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي على الطراز الديمقراطي التي يعرضها نجباء المثقّفين الفرنسيس لحل مشكلة الفقر والهجرة في النيجر هي التشجيع على المثلية للسيطرة على النمو السكاني المفرط يعني الانتقال من مرحلة المصّاصة المطاطية لإلهاء الشعوب الغافلة إلى مرحلة العازل المطّاطي، هذا اللي ناقصهم، حاشاكم وحاشا الشعب النيجري.
عرفتم الآن لماذا تخسرت فرنسا في إفريقيا وكيف قدّمت سياساتها الغبيّة النيجر على طبق من ذهب إلى روسيا والصين والهند؟
المشكلة ليست في بازوم ولا ماكرون، ولا معسكر شرقي ولا غربي، ولا حكم شرعي أو انقلابي، ولا قاعدة ولا داعش ..
العيال كبرت