لما سمع أبو بصير رضي الله عنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم عرف أنه سيرده إلى الكفّار ” فخرج حتى أتى سيف البحر ” كما جاء في رواية البخاري أي فرّ بعيداً عن الدولتين …
فرّ من الدولة الإسلامية لئلا يُرَدّ إلى المشركين
وهرب من المشركين فراراً من التعذيب والاضطهاد الديني
اتفاقية الصلح لا توجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبح شرطيّاً للمشركين يلاحق الخارجين على دولتهم ، ولا تنصّ على مطاردة الفارّين !
فما هي الصفة التي أصبح يتمتّع بها أبو بصير بعد فراره من مكة والمدينة ؟
الجواب : أصبح أبو بصير المسلم المؤمن حرّاً طليقاً لا تربطه علاقة سياسية بأحد ، مقيماً بأرض خلاء لا تخضع لسيطرة أحد ، وقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى بأن الأرض أرض الله ، وأن العباد عباد الله .
ثم انفلت أبو جندل بن سهيل من كفار قريش فلحق بأبي بصير . فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة [ وكلمة عصابة في اللغة العربية الفصحى القديمة لا علاقة لها بالإجرام كما في اللغة الحديثة بل هي كلمة مشتقة من عصابة الرأس أي مجموعة مترابطة متقاربة يلتف بعضهم ببعض فينصر بعضهم بعضاً ] .
ما يعني هذا ؟
يعني أنه قد أصبح للمسلمين تجمّع وكيان آخر مستقل عن الدولة الإسلامية الأولى .
ثم قال الراوي : ” فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم ” .
ما يعني هذا ؟
يعني أن ذلك الكيان المستقل قد اتخذ قراراً بالحرب خارج إطار الدولة النبوية .
ويعني أن الكيان الإسلامي الجديد أصبح مستقلاً سياسياً عن كيان الدولة الإسلامية الأولى ، ولولا ذلك لكان المسلمون هم الغادرون الخائسون بالعهد ، لكن ذلك الكيان الجديد لا يرتبط بعهد الصلح ولا صلة له سياسياً بالدولة النبوية .
قريش هي التي تورّطت بالشرط التي اشترطته ..
تبيّن أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قبل بالشرط على مرارته كان ينظر بالمنظور الاستراتيجي على المدى البعيد … كان رجل دولة لا تغلبه الحميّة والعاطفة حين يتعلّق الأمر بالمصلحة العامة .
تورّطت قريش فأعلنت التنازل عن شرطها وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم [ أي إلى أبي بصير وعصابته ] فمن أتاه فهو آمن أي لا يردّه إليهم ، فهاجروا إلى المدينة النبوية ودخلوا تحت مظلة الدولة الإسلامية فلزمهم ما لزم الدولة من العهود والمواثيق .