قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” لا تقوم الساعة حتى يُقبَضُ العلمُ ، وتكثُر الزّلازلُ ، ويتقاربُ الزمان ، وتظهر الفتنُ ، ويكثر الهَرْج ”
قالوا : ” وما الهَرْجُ ” ؟ فقال : ” القتل القتل ” – وفي رواية – فقال : ” هكذا بيده فحرّفها كأنه يريد القتل ” .
رواه البخاري ومسلم
في هذه النبوءة المتفق على صحّتها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عصر من عصور البشرية يغرق فيه بنوا آدم في الاقتتال مع ظهور الفتن وهي الابتلاءات والامتحانات التي تفتن الناس عن الحقّ .
عصر الهَرْج هو عصر الورطات .
أتدرون ما الورطة ؟ والورطة في اللغة هي المهلكة التي لا مخرج منها ، قيل : هي كلمة مشتقة من الأرض المطمئنة التي لا طريق فيها ، كمن تاه في قفار صحراء لا أعلام فيها ولا منارات ، فقد أثر الطريق فضَلّ السبيل ، وبعُدَ عن الماء حتى أصابه العطش الشديد وأشرف على الهلاك فيقال : هو في وَرْطة ، مشرفٌ على هلاكه ، وقيل مأخوذة من الوحل وردَغَة الخَبَال ، تقع فيها الغنم فلا تقدر على التخلّص منها .
فهي المشكلة العويصة ، لا مخرج منها إلا بالهلاك ، وأعظم الورَطات ورطة الدم كما روى ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
” لن يزال المرء في فُسْحَة من دينه ما لم يُصِبْ دَماً حراماً ” .
فكان ابن عمر يقول : ” إنّ من وَرَطاتِ الأمور التي لا مَخْرَجَ لمن أوقع نفسه فيها سفكُ الدّمِ الحرام بغير حِلِّهِ ” .
رواهما البخاري .
وروى ابن أبي شيبة أن رجلاً سأل ابنَ عباس وأبا هريرة وابنَ عمر عن رجل قتل مؤمناً فهل له من توبة ؟
فكلّهم أجاب بقوله : يستطيع أن يحييه ؟ يستطيع أن يبتغي نفقاً في الأرض وسُلّماً في السماء ؟ يستطيع أن لا يموت ؟ اهـ
يعني هو الخطأ الذي لا يمكن استدراكه بالتصحيح أيستطيع أن يُحيِيَ الميت بعد أن أزهق روحه ؟
فإن تاب كان ذلك فيما بينه وبين الله تعالى وبقي حقّ النفس التي قُتِلت بغير حق .
تلك هي الورطة المؤجلة ليوم القيامة ، يوم الحساب الأكبر ولذلك سمّاه الله تعالى يومَ الفصل أي يوم القضاء الأعلى والفصل في الخصومات التي تورّط فيها بنو آدم .
قال الله تبارك وتعالى : ” لأي يوم أجّلت ، ليوم الفصل ، وما أدراك ما يوم الفصل ” [ المرسلات 12/14 ] .
وقال تبارك وتعالى : ” إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ” [ الدخان / 40 ] .
فإذا قام الناس ليوم القيامة ، ثم حشروا جميعاً ليوم الحشر ، وأذن الله بالبدء في الحساب ليوم الحساب ، عجّل اللهُ القضاءَ في الدماء ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ، فلا يقدر متورّط في الدماء على ستر فضيحته وحفظ قضيّته ولو جاء بجبال من الحسنات حتى يفصل الله بينه وبين قتيله .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة ، في الدماء ”
رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود مرفوعاً .
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ثَكَلَتْه أمُّهُ ، رجلٌ قتل رجلاً متعمداً ، جاء يوم القيامة آخذاً بيمينه أو بشماله ، تشخُبُ أوداجُه دماً في قُبُل عرش الرحمن ، يلزَمُ قاتلَه بيده الأخرى يقول : يا ربّ ، سَلْ هذا فيمَ قتلني ” .
باللهِ عليكم يا بني آدم !
ألا يكفي هذا الوعيد لمن كان في قلبه مثقال حبةٍ من إيمانٍ وتصديق ؟
ألا يدعو ذلك إلى التريّث والتنقيح والتحقيق وإعادة النظر في الآراء والأهواء قبل الخوض في ورطة الأوراط ؟
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنها ستكون فتنٌ ، القاعد فيها خيرٌ من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرّف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأً أو معاذاً فلْيَعُذْ به ” .
رواه البخاري ومسلم .
وقوله – عليه الصلاة والسلام – : ” من تشّرف لها تستشرفه ” أي من تطلع لها ولم يعرض عنها أشرف منها على هلاكه ، قال الحافظ ابن حجر : ” يُقال استشرفت الشيء علوته وأشرفت عليه ، يريد من انتصب لها انتصبتْ له ، ومن أعرض عنها أعرضتْ عنه ، وحاصله أن من طلع فيها بشخصه قابلته بشرّها ” . اهـ
إن المسلمين بحاجة إلى فترة من الهدوء والتأمل والرجوع إلى ميزان دقيق لتنقيح الأهواء والآراء ، ولا خير من الميزان النبوي كما روي عن الإمام سفيان بن عيينة المكي [ من علماء القرن الثاني الهجري ] أنه قال :
” إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر فعليه تعرض الأشياء ” .
لكن علينا أن نتأكّد من سلامة الميزان النبوي ففي الفتن تكثر الموازين الفاسدة المغشوشة ، وأعني بذلك الأحاديث النبوية المكذوبة التي يروّج لها المُطفّفون من أهل الأهواء والفتن ليَلْبِسوا على الناس دينَهم ولينصروا أهواءهم ومذاهبهم بالغش والتدليس على المسلمين ، كما روى الخطيب البغدادي بإسناد صحيح عن عبد الله بن يزيد المقرئ [ وكان سمع من ابن لهيعة قبل اختلاطه ] عن ابن لهيعة فقيه مصر ومحدثها قال :
سمعتُ شيخاً من الخوارج تابَ ورَجَع وهو يقول : ” إنّ هذه الأحاديث دينٌ ، فانظروا عمّن تأخذون دينكم ، فإنا كنّا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً ” .